أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **
القدرة على الابتكار في عالم اليوم، باتت أهم المهارات التي تبحث عنها الشركات العالمية، فلكي تحقق الشركة أرباحا كبيرة، لا بُد وأن تنتج منتجات مميزة لا شبيه لها في الأسواق، وتعد الطبيعة من أهم مصادر الالهام لدى المبتكرين، وعلى الرغم من أننا جميعًا نتعامل مع الطبيعة بشكل دائم ويومي، إلّا أن المبتكر يتميز عنا بأنّ نظرته وأفق تفكيره ينطلق خارج ما هو مألوف، وينظر الى ما يراه بعينه نظرة مغايرة لما نراه، فهو يبصر ما لا نبصر، ويرى في مظاهر الطبيعة ما لا نراه.
عالِم الأحياء فيلهام بارثلوت، كانت تستهويه أوراق الأشجار وشكلها الخارجي، وكان يضعها تحت المجهر الإلكتروني ليراها عن قرب، وقد لاحظ هذا العالم أن أسطح هذه الأوراق عندما نظر اليها تحت المجهر، معقدة غاية في التعقيد، ولها أشكال مختلفة، كما لو أن انسانًا ذكيًا قام بتصنيعها، وكان هذا العالم يقوم بتنظيف الأوراق جيدًا قبل وضعها تحت المجهر، لكي يرى سطح الورقة جيدًا ودون شوائب، لكنه لاحظ ظاهرة غريبة للغاية، وهي أن أوراق نبات زهرة اللوتس لا تحتاج الى تنظيف، فهي نظيفة دائمًا، ويمكن مشاهدة تفاصيل سطح الورقة دون تنظيف.
وهنا توقف هذا العالم، وقاده الفضول العلمي عن الكشف عن سر نظافة أسطح أوراق هذه الشجرة، ومنها توصل الى ما يعرف بتأثير لوتس، وقام بتسجيل براءة الاختراع باسمه؛ حيث استطاع أن يقوم بتصنيع أولى المواد التي تمتلك خاصية التنظيف الذاتي مستلهمًا ذلك من أوراق شجرة اللوتس.
ولربما تكون قصة الشريط اللاصق الخالي من المواد اللاصقة أكثر إلهامًا، فكلنا يشاهد السحالي وهي لاصقة على الجدران وأحيانًا على الأسقف، وبعضها قد تكون كبيرة الحجم، ولكنها لا تسقط وتستطيع أن تلتصق بالجدران، وتبقى كذلك لمدة طويلة من الزمن، وعادة فإن أغلبنا يتجه تفكيره- عندما يراها لاصقة على جدار من جدران غرف المنزل- إلى إيجاد وسيلة للتخلص منها، لكن عالم من علماء الطبيعة ويدعى أنري جيم له نظرة مغايرة لهذه الظاهرة؛ إذ تساءل عن سر هذه القدرة، وبعد بحث وتقص استطاع أن يقوم بتطوير أشرطة لاصقة دون وجود مواد لاصقة، يمكن استخدامها مرات متعددة، ونشر بحثه في مجلة نيتشر المعروفة وذلك عام 2003، ويقوم اليوم عدد من الشركات بإنتاج هذه الأشرطة اللاصقة.
ومن هنا فإن البعض يرى أن الإنسان لا يمكنه أن يكون مبتكرًا بالمعنى الحرفي للكلمة، لأن الابتكار بمعنى أن يكون المفهوم الذي يقوم عليه المنتج جديدًا ولم يسبقه أحد، أمر لا يمكن للإنسان أن يصل اليه؛ فالدماغ البشري مُصممٌ بطريقة تجعله يستلهم الأفكار ويطورها من خلال ما يراه ويدركه، ولكنه لا يستطيع أن يصل الى فكرة ما من دون أن يستلهمها من مصدر ما؛ فالمبتكر يُلاحظ ظاهرة طبيعية، ومن ثم يقوم بنقل الفكرة وتطويرها بحيث تتحول الى منتج تستفيد منه البشرية. والمبتكر بعد أن يستقي من الطبيعة فكرته، يضيف اليها ابداعا من ذكائه، ويخرج بتصميم مبتكر ومفيد.
حتى اللغة، التي قد يظن البعض أن الإنسان ينفرد بها، إلّا أنها في الواقع لها تشابه مع لغات التواصل التي يستخدمها بعض الحيوانات، فالقردة مثلًا تتخاطب مع بعضها من خلال إصدار أصوات مختلفة، والذئاب من خلال العواء، فهذه الأصوات المختلفة التي تصدرها هذه الحيوانات هي صورة بدائية للغة التي طوَّرها الإنسان.
لكن ابتكار القراءة والكتابة ربما يكونان الابتكارين الوحيدين الذين يشذان عن هذه القاعدة، فلا نجد لهما شبيها في الطبيعة؛ فالإنسان ينفرد عن جميع الكائنات الأخرى بالقراءة والكتابة، ولم نعثر على كائن حي يمكنه أن يكون مصدر الالهام لهذين الابتكارين ولو بصورتهما البدائية، ولذا فإن العلماء يعتبرون وجود أية رسومات أو أشكال منحوتة على حجر من الأحجار في منطقة ما، مؤشرًا على تواجد الإنسان في تلك المنطقة، فهذه الرسومات والأشكال هي الصورة البدائية للكتابة عند الإنسان.
ولعل تفرُّد الإنسان بهاتين المهارتين: القراءة والكتابة، هو السبب الذي جعل القرآن الكريم يشير إليهما في أولى آياته التي نزلت على نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتذكر الإنسان بهاتين النعمتين العظيمتين التي منّ الله وتكّرم بهما عليه "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ". (العلق: 3- 5).
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مصادر:
• Brian Clegg, Biomimetics: How Lessons from Nature Can Transform technology