د. يوسف بن حمد البلوشي **
في إطار التوجهات الاستراتيجية الهادفة إلى تحقيق تحولات جذرية في هيكلة الاقتصاد العُماني، بات تقديم تحليل مُعمق لبعض المتغيرات الأساسية أمراً في غاية الأهمية. فأبجديات التنمية تشير إلى أهمية تعزيز ثقافات الادخار والاستثمار في المجتمع العُماني بمعناه الواسع للأفراد والشركات والحكومة؛ فبدون ثقافة الادخار لن تكون هناك ثقافة الاستثمار والتي بدونها لن يكون هناك إنتاج وتصنيع وتصدير ولن نُحقق التحولات الاقتصادية المنشودة لتوليد فرص العمل وتوفير مصادر الدخل الكافية للعيش الكريم وسنظل ندور في دوامة النفط ونلقي اللوم على الظروف الجيوسياسية والأوبئة والتغيرات المناخية.
ويتصف الوضع الحالي في السلطنة بضعف هيكلي في مستويات الادخار والاستثمار، والتي تشكل إحدى ركائز التنمية المستدامة، وقد يعزى ذلك إلى انخفاض مستويات الدخل من ناحية، والميل نحو السلوك الاستهلاكي من ناحية أخرى. وعلى المستوى الكلي، فإنَّ هيكل الحساب الجاري في ميزان مدفوعات للسلطنة يعاني من ارتفاع حجم الأموال المحوَّلة إلى الخارج في شكل أموال لتغطية قيمة الواردات من السلع والخدمات، وتحويلات من أجور العمالة الوافدة أو تحويلات دخل الاستثمار الأجنبي في السلطنة؛ الأمر الذي يؤثر في حجم الأموال المتوفرة للاستثمار المحلي.
ومن المعلوم أيضًا أن النشاط الاستثماري لأي دولة يتم تمويله بصفة عامة من المدخرات المحلية، ويتم تعزيز النشاط الاستثماري من خلال استقطاب الاستثمارات الأجنبية في حالة عدم كفاية الموارد المحلية. وعند تحليل اقتصادات الدول النفطية، نجد أن المدخرات المحلية في بعض الأحيان تزيد على الاستثمار نتيجة لفائض الحساب الجاري الذي يؤدي إلى تدفق رأس المال لشراء أصول في الخارج. وتُظهِر البيانات الخاصة بالادخار والاستثمار في سلطنة عُمان وجود علاقة قوية بين أسعار النفط والادخار والاستثمار.
وبالنظر إلى انفتاح الاقتصاد العُماني على العالم الخارجي، فإنَّ هذا النوع من عدم التطابق بين الادخار المحلي والاستثمار المحلي يصبح أمرًا لا يمكن تجنبه، حتى في حالة وجود زيادة في الادخار المحلي، ووجود فرص استثمارية أفضل في خارج السلطنة. ولذلك.. فإن منح حوافز من شأنها زيادة المدخرات المحلية وتحويل هذه المدخرات إلى استثمار يُعد أمرًا في غاية الأهمية للسلطنة. بيد أن الفشل في استثمار هذه المدخرات لتولد عوائد مجزية قد يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي، ومن ثم انخفاض معدل النمو الاقتصادي، وبصفة خاصة في الفترات التي تنخفض فيها أسعار النفط. وعليه، يصبح من الحتمي على المؤسسات المالية العاملة في سلطنة عُمان أن تعمل على منح الائتمان من هذه المدخرات طبقًا لاحتياجات الاستثمار المنتج، وهو أمر ضروري لتحقيق النمو المستدام في المدى الطويل.
وعند النظر في الإحصاءات، نُلاحظ أن الادخار المحلي خلال العشرة سنوات الماضية بلغ في المتوسط حوالي 8.9 مليار ريال عُماني؛ أي ما نسبته 26% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي المقابل، بلغ متوسط الاستثمار نحو 10.2 مليار ريال عُماني، وشكل ما نسبته 30% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى صعيد مساهمة القطاعات المؤسسية في التكوين الرأسمالي، يُلاحظ ارتفاع محدود نسبيًا في مساهمة القطاع الخاص في إجمالي التكوين الرأسمالي من 35% في عام 1995 إلى نحو 40% في عام 2019، بينما انخفضت مساهمة القطاع العام بشكل طفيف من 65% إلى 60% خلال نفس الفترة.
هذا يُدلل على ضعف الادخار والاستثمار الخاص ووجود فجوة استثمارية في القطاع الخاص. ولا شك أن المعدل المنخفض للادخار الخاص يعد أمرًا غير معتاد في دولة مُصنّفة ضمن مجموعة الدول ذات الدخل المرتفع؛ حيث نجد علاقة إيجابية قوية بين مستوى الدخل ومستوى الادخار. وهنا لا بُد من الإشارة إلى ضرورة تعزيز جهود دعم مستويات الاستثمار في الاقتصاد، نظرًا لما يُشكله من أهمية في توسيع قاعدة الأصول الإنتاجية في الاقتصاد، ودعم مستويات النمو الاقتصادي الحقيقي في الخطط التنموية القادمة.
وعلى المستوي الكلي، تُشير الدلائل الإحصائية إلى وجود فجوة استثمارية واضحة في سلطنة عُمان، فبحسب إحصاءات الحسابات القومية الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، فإنَّ الفجوة الاستثمارية الوطنية كبيرة، وتُحسب من خلال طرح إجمالي الادخار القومي الإجمالي من إجمالي التكوين الرأسمالي. وبلغت هذه الفجوة خلال السنوات الخمس المنصرمة (2017 - 2021) كما يلي: (سالب) 4.0 مليار ريال (2017)، و(سالب) 1.1 مليار ريال (2018)، و(سالب) 2.3 مليار ريال (2019)، و(سالب) 5.9 مليار ريال (2020)، و(سالب) 2.7 مليار ريال (2021).
هناك العديد من العوامل التي قد تؤثر على هيكلة التكوين الرأسمالي والنشاط الاستثماري، من بينها درجة انكشاف الاقتصاد العُماني وطبيعة دورة الأنشطة الاقتصادية المحلية التي تسير في اتجاه واحد في جانب المدخلات، كما إن الحصول على العملة الصعبة يتأتى من مصدر رئيسي يتيم نسبيًا هو تصدير النفط والغاز، فيما حصادنا من تصدير بقية السلع والخدمات وأرباح شركاتنا المحلية الخاصة والحكومية العاملة في الخارج ما زال متواضعًا. وفي الجانب الآخر، نعتمد بشكل مُفرط على استيراد المواد الغذائية والأساسية؛ مما يؤدي إلى إنفاق جزء كبير من الدخل المحلي على الواردات، ناهيك عن التحويلات المالية المتمثلة في تعويضات العمالة الوافدة والأرباح للشركات العاملة في السلطنة، وخروج المدخرات الخاصة للاستثمار في فرص استثمارية في الخارج، إضافة إلى محدودية توفير المؤسسات المالية الأموال اللازمة للاستثمار المنتج، فضلًا عن الفجوة الكبيرة نسبيًا بين أسعار الفائدة على القروض وأسعار الفائدة على الودائع محليًا وخارجيًا.
في هذا الإطار، يُعد تركُّز الائتمان المصرفي في القروض الاستهلاكية وارتفاع تكلفة التمويل وصعوبة اشتراطاته من أبرز مواطن الضعف في الاقتصاد العُماني؛ حيث أدى هذا التركُّز إلى ارتفاع مساهمة القطاعات الخدماتية في إجمالي الناتج المحلى، وتراجع دور القطاعات الإنتاجية. ولقد تبنت السلطنة العديد من السياسات، للتغلب على هذا التحدي الذي يحول دون انطلاق الاقتصاد العُماني بالدرجة المنشودة، ومن بين هذه السياسات إنشاء بنك التنمية، ومؤخرًا صندوق عُمان المستقبل وغيرها، إلّا أن تأثيرهما لم يظهر بشكل جلي؛ الأمر الذي يتطلب تعزيز السياسات الداعمة لها، وتعزيز مستويات كفاءة إدارة هذه المخصصات.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أهمية التنفيذ من "المسافة صفر" للدراسات والاستراتيجيات والمبادرات والبرامج الوطنية المعنية بتحفيز الاقتصاد العُماني وتعزيز فعاليتها. ولا يفوتنا أن نذكر أيضًا أن من بين الحلول المتاحة لتعزيز مستويات المدخرات المحلية، تحقيق نقلات نوعية في دور البنوك والمؤسسات المالية وتوفير أوعية ادخارية طويلة الأجل، بحيث تكون جاذبة وذات عائد مرتفع. ولا بُد من إيجاد حزمة من تدابير الإصلاح الهيكلي للتأثير على مستويات المدخرات الخاصة، وذلك بشكل رئيسي من خلال زيادة الكفاءة التخصيصية للموارد.
وفي هذا الإطار، يجب أن تُركِّز جهود زيادة الادخار الخاص بشكل أساسي على عمليات التحرير المالي؛ بما في ذلك تطوير أدوات الادخار طويلة الأجل (صناديق المعاشات التقاعدية، وصناديق الاستثمار المشترك، والتأمين على الحياة) وتحرير أسعار الفائدة على القروض الاستهلاكية، إلى جانب استقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وتوجيهها نحو الأنشطة غير النفطية؛ لتعزيز الأصول الإنتاجية في قطاعات التنويع الاقتصادي والمحافظة عليها على تدويرها في الدورة الاقتصادية، فضلًا عن تعزيز سياسات الاقتصاد السلوكي لتشجيع المواطنين على ثقافة الادخار، إضافة إلى تعزيز سياسة المحتوى المحلي وإحلال الواردات لزيادة كفاءة الدورة الإنتاجية وتحسين كفاءة الإنفاق.
** مُؤسِّس البوابة الذكية للاستثمار والدراسات