مستقبل الدقم بأيدينا!

 

حاتم الطائي

◄ الدقم دُرة المدن الاقتصادية في عُمان وتنعم بتنمية شاملة

◄ مشاريع الدقم قادرة على توفير فرص عمل للشباب

◄ ضرورة زيادة عدد سكان الدقم عبر حزم تحفيزية متعددة

قبل أكثر من 13 عامًا، عندما بدأت حركة البناء والتشييد تنشط في ولاية الدقم، تمهيدًا لإنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، عمّ التفاؤل في الأوساط المتخصصة، ولدينا ككُتاب رأي وقادة فكر، واستبشرنا خيرًا كثيرًا بهذه المدينة الوليدة آنذاك، وذلك المشروع الطموح الواعد، وقد وصفناها في البدايات بأنها "قاطرة النمو" و"مدينة المستقبل" و"بوابة التنمية المستدامة"، وغيرها الكثير من الأوصاف الدقيقة والصحيحة، ليس من باب الثناء، ولكن انطلاقًا من الوعي العميق بأهميتها المحورية كمدينة مستقبلية تقود النمو الاقتصادي، وبصفة خاصة مسارات التنويع الاقتصادي، بعيدًا عن عائدات النفط والغاز.

اليوم الدقم هي دُرة المدن الاقتصادية في وطننا، تنعم بالتنمية الشاملة عبر تنفيذ حزم مُتعددة من مشاريع البنية الأساسية والتي تجاوزت وفق آخر إحصائية، 4.2 مليار ريال عُماني (أي أكثر من 11.5 مليار دولار أمريكي)، إلى جانب مرافق نوعية على أعلى مستوى من الكفاءة والتميُّز، سواء في مطار الدقم، أو ميناء الدقم، أو ميناء الصيد البحري، فضلًا عن مشاريع نوعية وحصرية مثل مصفاة الدقم، والتي من المُقرر إزاحة الستار عنها خلال الأيام المقبلة، في خطوة تعكس اهتمام الدولة بمثل هذه المشاريع، نظرًا لدورها التنموي الكبير، وآفاق عوائدها على الاقتصاد الوطني، خاصة وأنها تعد واحدة من أضخم مشاريع تكرير النفط في منطقة الشرق الأوسط، بتكلفة تخطت حاجز 8 مليارات دولار.

وهنا يجب أن نتوقف عند أهمية هذا المشروع الاستراتيجي الحيوي، والتعرف على عوامل ومُمكنات نجاحه، والتي تتمثل أولًا في اختيار الموقع الجغرافي المُتميز في المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، بالقرب من ميناء الدقم وفي القلب من شرايين لوجيستية ضخمة؛ إذ إن الدقم تتوسط عدة محافظات، وتطل على بحر العرب ومنه إلى المياه المفتوحة في المحيط الهندي وخليج البنغال شرقًا، وكذلك خليج عدن ومضيق باب المندب وقناة السويس غربًا، ما يؤكد عبقرية الموقع الجغرافي. أضف إلى ذلك أنَّ المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم تضم محطة "رأس مركز" لتخزين النفط، بما يدعم تكاملية هذه الصناعة، سواء في تخزين النفط الخام أو تكريره في بقعة جغرافية واحدة قريبة للغاية.

ثانيًا: أن مصفاة الدقم تعكس توظيف العلاقات الأخوية لسلطنة عُمان في تنمية الاقتصاد؛ فالمصفاة مشروع مشترك بين سلطنة عُمان ودولة الكويت الشقيقة، وتعكس إيمان البلدين بالفرص الواعدة في قطاع النفط.

ثالثًا: أن الطاقة الإنتاجية للمشروع تصل إلى تكرير 500 ألف برميل من النفط يوميًا؛ الأمر الذي يعني توفير كميات كبيرة من المنتجات النفطية، تخدم العديد من القطاعات، وخاصة قطاع التصنيع والصناعات التحويلية.

رابعًا: أن هذا الإنتاج الضخم من منتجات التكرير، يفتح الباب واسعًا أمام تصدير هذه المنتجات، بعدما كُنَّا نستوردها في أوقات سابقة، وهذا من شأنه أن يُعزز الإيرادات العامة للدولة، ويرفع من حجم الحصيلة الدولارية ومن ثم تأمين مصادر العملة الأجنبية.

ومما يؤكد الأهمية الاقتصادية المتعاظمة لمنطقة الدقم الاقتصادية الخاصة، ما تشتمله من مشروعات فريدة، على مساحة 2000 كيلومتر مربع، مزوّدة بمشاريع لتوليد الطاقة؛ سواءً كانت من مصادر تقليدية أو متجددة، وأهمها مشاريع الهيدروجين الأخضر، علاوة على مشاريع نوعية مثل مصنع "كروة للسيارات" الذي يعد أول مصنع للسيارات والمركبات والحافلات في عُمان، وهو أيضًا استثمار عُماني قطري، ما يؤكد نجاعة الاستثمارات الخليجية مع الأشقاء. ومن بين المشاريع: مشروع مصفاة إنتاج حامض السيباسك، ومجمع الحوض الجاف لإصلاح السفن، وميناء الصيد البحري متعدد الأغراض والذي من المرتقب افتتاحه خلال الأيام القليلة المقبلة، وقد تكلف هذا المشروع 63 مليون ريال، إلى جانب المحطة المتكاملة للكهرباء والمياه، ومصنع الدقم هونج تونج للأنابيب، والذي يأتي ضمن مشروع المدينة الصناعية الصينية- العُمانية، إلى جانب المشاريع السياحية والفندقية، من إجمالي أكثر من 430 مشروعًا استثماريًا واعدًا.

أمام هذا القدر الكبير من المشاريع الواعدة، وتلك الاستثمارات الضخمة التي ضختها الحكومة أو القطاع الخاص لتنفيذ المشاريع، نجد أن مدينة الدقم ما تزال تواجه العديد من التحديات، في مقدمتها قلة عدد السكان، الذي لا يتخطى بضعة آلاف، ما يعني أننا أمام تحدٍ ديمغرافي يجب وضع الحلول اللازمة لمُعالجته، وفي تقديري الشخصي يجب أن تستوعب الدقم خلال العقد المقبل أكثر من مليون نسمة؛ أي بمعدل 100 ألف في السنة، لضمان تحريك عجلة الاقتصاد في هذه البقعة المميزة من وطننا، والتي أنفقنا عليها مليارات الريالات ولا يجب أن تظل هكذا دون أعداد كبيرة من السكان، يُنعشون الأسواق ويستأجرون العقارات ويُدرون عائدات وضرائب على الدولة.

وهُنا نقترح مسارين لزيادة أعداد السكان، من خلال إطلاق برنامج حكومي لتوطين رواد الأعمال وجذب أكبر عدد من الشباب العُماني الطموح لإنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة تقدم الخدمات اللازمة لسكان المدينة، مع تقديم حوافز حصرية وجاذبة للغاية، تتضمن إعفاءات من الضرائب والرسوم نهائيًا، ولمدة 10 سنوات، ومنحهم وحدات سكنية مدعومة أو منخفضة التكلفة مع تسهيلات في السداد، بما يضمن اصطحابهم لأسرهم وذويهم، كي نتفادى تجربة العاصمة؛ حيث يعمل عدد كبير من المواطنين من محافظات الداخلية وجنوب وشمال الباطنة في مسقط لكنهم غير مستقرين فيها. وهذا الأمر سيُعزز من نمو السكان العُمانيين، ويساهم في زيادة عدد المدارس والمراكز الصحية لخدمة هؤلاء.

أما المسار الثاني، فيتمثل في جذب أكبر عدد من العمالة الأجنبية، مع التركيز على العمالة الماهرة من أطباء ومهندسين وصيادلة وخبراء في مجالات متعددة، والحد قدر الإمكان من العمالة قليلة المهارات واقتصارها على قطاع التشييد والبناء، مع تقديم حوافز لهم لاستقدام أسرهم. إلى جانب فتح باب الاستثمار الأجنبي دون قيود، لتكون الدقم منطقة حُرة بمعنى الكلمة.

كما يجب فتح الدقم أمام السياحة الأجنبية من مختلف الجنسيات، دون اشتراط الحصول على تأشيرة سياحية؛ حيث يكون بإمكان السائح الوصول إلى الدقم فقط دون تأشيرة سياحية، وفي حالة رغبته في التجول في أي منطقة أخرى بالسلطنة يمكنه الحصول على تأشيرة بالطرق المعتادة. ومثل هذه الخطوة ستساعد على نمو القطاع السياحي، خاصة وأن الدقم تتميز بمناخ استثنائي في موسم الشتاء والخريف لقربها من ظفار.

ومن عوامل جذب الاستثمارات إلى الدقم، أن تستقطب الدقم البنوك التي تقدِّم الخدمات المصرفية الخارجية "أوف شور بانكينج"، فهناك الكثير من أصحاب رؤوس الأموال يبحثون عن ملاذات آمنة لمدخراتهم واستثماراتهم، بعيدًا عن مناطق الصراع والحروب، وما أكثرها للأسف هذه الأيام، ومن هُنا يمكن أن تقوم الدقم المدينة الحاضنة للبنوك المُقدِّمة لهذه الخدمات.

وبالتوازي مع هذه الإجراءات، يجب أن تضم الدقم جامعة دولية متخصصة في مجالات نوعية وفريدة، مثل الذكاء الاصطناعي أو تصنيع الرقائق وأشباه الموصلات، وعلوم الفضاء، بالتعاون والشراكة مع أبرز الدول الرائدة في هذه التخصصات، مثل اليابان والصين وكوريا، مع التوسع في مشاريع مماثلة لجذب أكبر عدد من السكان.

ويبقى القول.. إنَّ الدقم مدينة المستقبل الواعدة التي ستقود بالفعل قاطرة النمو الاقتصادي القائم على تنويع الموارد، لكن لن نُحقق ذلك دون خطة مُستقبلية واضحة المعالم، وفق مؤشرات أداء سنوية، تتماهى مع أهداف رؤيتنا المستقبلية "عُمان 2040"، وتبرهن للجميع قدرتنا على بناء مدينة عالمية مُستدامة ومواكبة للمتغيرات ومُلبية للطموحات، والعُمانيون قادرون على ذلك متى ما توافرت الإرادة.