محطات لندنية (8)

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

وصلنا محطة قطار "بورنموث" هذه المدينة الساحلية الوادعة، التي يقع إلى جانبها "بول" و"كرايست تشيرش"، وهذه الثلاثة هي أحياء كبرى؛ لأننا سَمِعنا أَنَّ الحكومة عرضت عليهم أن يتحولوا إلى مدينة، لكنهم اعتذروا.

كان في استقبالنا الولد مؤيد، الذي يدرس اللغة الإنجليزية في أحد معاهد "بورنموث"؛ حيث أخذنا أنا وأخيه في سيارة أجرة إلى الفندق الهادئ، الذي يقع وسط غابة جميلة تجمل أشجارها السناجب. وبعد وقت قليل من الزمن زارنا متفضلًا أستاذنا الشيخ: سالم بن ناصر المسكري، الذي زار هذه المنطقة عام 1968 للدراسة، ومنذ تلك اللحظات أحب هذه المدينة، وأصبح يقضي إجازته الصيفية فيها بشكل دائم، ومنذ لحظة وصولنا كان قد خطط لدعوتنا على العشاء في مطعم يديره شاب عُماني. وتكررت دعواته لنا أكثر من مرة، وأعطانا فكرة عن هذا الحي الكبير "بورنموث"، وعن بقية المناطق المجاورة، وعن بريطانيا بشكل عام، وهذا ليس بغريب على رجل عُرِفَ بتواضعه الجم، وكرمه، وحُسن استقباله كما عهدناه في عُمان. و"بورنموث" وغيرها من مُدن الريف، ومناطقه خارج لندن، هي مقصد للكثير من المتقاعدين الذين يعرضون بيوتهم للبيع في لندن بملايين الجنيهات الإسترلينية، ويشترون بربع ثمنها، أو أقل من ذلك بيوتًا يعيشون فيها بعيدًا عن ضجيج المدينة وصخبها، وزحامها وغلاء المعيشة فيها، وقد يُوظف بعضهم ما تبقى من قيمة بيته في البنوك لتدرَّ عليه فوائد شهرية، وقد لاحظت أَنَّ معظم سُكان هذه المدينة هم من كِبار السن، مما يؤكد ما ذكرناه.

قمنا بجولة في العديد من الأماكن منها "بول"، المكان الساحلي الجميل الذي استمتعنا بأكل السمك الطازج فيها من مطعم على البحر، كما زرنا منطقة "ساند بانكس Sand Banks" الضفاف الرملية، وشربنا القهوة في أحد مقاهيها المطلة على البحر. ومما لاحظناه في هذين المكانين كثرة اليخوت، والقوارب الخاصة الراسية على الساحل، مما يعني كثرة الأثرياء في هذه الأماكن.

تشتهر بول "Pool" بمول الدولفين، وبها عدد من المحلات والمتاجر، والمقاهي ومطاعم الأسماك، وما يميزها هي وبورنموث وكريستشيرش أنَّ غالبية السكان، أو السياح والمرتادين هم من السكان الأصليين، أي البريطانيين الأصليين، وسمعت أنَّ بها قطارًا بخاريًا قديمًا يَعدُّ أحد المعالم السياحية، ويستقله السياح عندما يزورون "بول". ويذكرني هذا القطار البخاري السياحي القديم، بالقطار الذي ركبناه في أحد الأماكن السياحية خارج ملبورن. وتُذكِّرُني اليخوت والقوارب في بول وساند بانكس، باليخوت والقوارب في "جولد كوست"، التي زرتها أنا وعائلتي أثناء إقامتي لدراسة اللغة الإنجليزية في ملبورن بأستراليا.

أما وسائل المواصلات المتوفرة في بورنموث وبعض المناطق القريبة منها التي أشرنا إليها في السابق كـ"بول" و"كريستشيرش"، فهي الحافلات التي يمكن ركوبها باستخدام بطاقة البنك على مدار اليوم، ويتم الخصم في وقت متأخر من الليل حسب الأماكن التي زارها الراكب كما هو الحال في لندن.

اصطحبنا الأستاذ الشيخ سالم بن ناصر المسكري في جولة سياحية في الغابات، والطريق الساحلي مشيًا على الأقدام، إلى أن وصلنا فندق "كارلتون" الذي يسكن فيه في "بورنموث". وحدثنا أستاذنا الشيخ، أنه كانت توجد في مدخل الفندق صور لتشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وهو يُخطط مع قادته في اجتماعات لمعركة "دنكيرك"، التي وقعت في الحرب العالمية الثانية عام 1940 بين قوات الحلفاء وألمانيا النازية. و"دنكيرك"، هو ميناء فرنسي يقع على الجهة المقابلة من سواحل "بورنموث"، ولم نجد هذه الصور، ولعلها أزيلت لغرض الصيانة، كما قال أستاذنا الشيخ. وتحولت هذه المعركة إلى فيلم سينمائي أمريكي بعنوان "دونكيرك Dunkirk" صدر في عام 2017.

تحركتُ برفقة الأولاد لزيارة كرايست تشيرش "Christ Church"؛ أي كنيسة المسيح، وكنا قد خططنا لزيارة مدينة "ساوثامبتون"، للاطلاع على محتويات متحف السفينة "تايتانك"، فعدلنا عنها إلى "كريستشيرش"، نظرًا لقربها من "بورنموث". والوصول إلى هذه البلدة يحتاج منا إلى ركوب حافلتين، أو التوقف مرتين لتغيير الحافلة، المنطلقة من بورنموث، وركوب حافلة أخرى، لأنَّ هذه المنطقة بعيدة نسبيًا. كانت الجولة السياحية التي قُمنا بها في هذه البلدة من أجمل الجولات السياحية لنا في بريطانيا، لأن جوها جميل، وهي هادئة ورائعة، وبها عدد من الكاتدرائيات والكنائس، أهمها كريستشيرش التي سُميت البلدة باسمها.

كانت زيارتنا في يوم الأحد، فشاهدنا من بعيد قُداسًا يقام في أحد أكبر كنائس هذه البلدة، قطعنا ممرًا مسفلتًا تبرع به أحد المحسنين يحمل لقب "Mr" منذ أكثر 150 عامًا، ويمر بمحاذاة النهر وسط الأشجار الجميلة مشيًا على الأقدام، وصولًا إلى مرسى القوارب واليخوت الخاصة، أو تلك التي تؤجر لغرض السياحة. استأجرنا قاربًا من السيدة التي كانت تبيع التذاكر من كشك صغير، وأخبرتنا أنه بإمكاننا قيادة هذا القارب الصغير ذي المحرك الواحد بأنفسنا؛ فتطوع الولد محمد بقيادة هذا القارب في النهر في رحلة رائعة مُمتعة ذهابًا وإيابًا.

وذهبنا لرؤية الكرسي الحديدي القديم الذي يعود لقرون من الزمان، والذي يستخدم لإغراق من يثبت أنها تمارس السحر في النهر الذي يقال إنه كان عميقًا في تلك الأيام، وقد كُتبت لوحة نحاسية بالقرب من هذا الكرس تحكي قصته، ومن هم الذين يطبق عليهم حكم الإغراق في النهر، كتب كذلك أنَّ من يرتكب أمورًا أخرى أقل من السحر، فإنه يطبق عليه حكم التعزير في السوق أمام الناس كالجلد مثلًا.

تحركنا بعد ذلك لزيارة سوق هذه البلدة (المنطقة) لأكل "السكون" مع الزبدة والمربى "Jam"، والشاي الإنجليزي من أحد المقاهي الموجودة في السوق، فأحضره طازجًا ساخنًا لذيذًا كما نريد، لولا أنه تأخر في تحضيره قليلًا. وعندما أخبرنا أستاذنا الشيخ سالم بن ناصر المسكري عن زيارتنا هذه، وعن الهدوء والاحتشام، قال: إن بلدة "كرايست تشيرش" هي من أكثر الأماكن محافظة هنا، وهي من أكثر المؤيدين لحزب المحافظين.

ونختم حديثنا عن زيارتنا إلى بريطانيا وعاصمتها لندن، وبعض مُدنها وأماكنها ببعض الملاحظات، أو الدروس المستفادة من هذه الزيارة.

وأولى هذه الملاحظات، عادة القراءة في المترو والحافلات؛ فقلّما ركبنا إحدى هذه المواصلات إلّا ووجدنا فتاة، أو فتى يقرأ رواية أو قصة أو كتاب، وهذه العادة وجدتها في وسائل مواصلات "ملبورن"، إلّا أن ما يُميِّز "ملبورن" أنَّ الركاب عندما يكونون في حالة انتظار للقطار، فإنهم يستغلون وقتهم في قراءة كتاب. وما دمنا في الحديث عن وسائل المواصلات، فإننا قد لاحظنا أنَّ بعض الركاب يقفون طوال مدة الوصول إلى المحطة الأخرى في المترو والحافلات، لكن الزحام في الحافلات أكثر. ولم ألحظ الزحام في وسائل المواصلات ووقوف الركاب، إلّا في مصر والمغرب، ولكني لم ألحظ هذا الزحام الذي يؤدي إلى وقوف الركاب في "ملبورن".

ومن الأمور التي لاحظتها في "لندن" و"ملبورن" و"بكين" و"شنجهاي" أنَّ هناك مقاعد مخصصة لكبار السن والمعاقين والأطفال، وإذا ما ركب في القطار أحد هؤلاء الذين أشرنا إليهم يقوم الراكب العادي الذي ليس هو من هذه الشرائح، ويفسح الكرسي للراكب من المشار إليهم في اللوحات التي تؤكد على هذا.

واحترام إشارات المرور، وأنوار الانعطاف إلى اليمين واليسار تُحترم وتطبق، ليس كما هو الحال في بلادنا التي انمحت فيها هذه الإشارات أو تكاد.

وننتقل إلى النفايات أو أكياس القمامة، التي لاحظت أنها تجمع أمام كل محل قبل مجيء سيارة جمع القمامة بدقائق قليلة، وقد استغربت هذا الأمر في لندن، وتمنيت لو كانت هناك صناديق خاصة تجمع فيها القمامة، ولم ألحظ هذا الأمر خارج لندن، ربما بسبب أنَّ لكل مدينة أو بلدة نظامها وأسلوبها الخاص في معالجة النفايات.

وبما أنني من المتابعين والمحبين لما يتصل بأنواع السيارات منذ الطفولة، فإنني سجلت بعض الملاحظات منها أنني لم أرَ سيارة أمريكية في لندن، ولا أدري ما السبب؟! ورأيت سيارة أمريكية مكشوفة ذات الدفع الرباعي في منطقة "ساند بانكس Sand banks"، وفي هذه المنطقة السياحية رأينا مجموعة من أصحاب السيارات الكلاسيكية القديمة يتجولون فيها أمام بعض المقاهي على شكل مجموعة من الهواة "جروب"، وأعتقد أن عددًا من هذه السيارات هي من السيارات الأمريكية من طرازات الخمسينيات أو الستينيات من القرن الماضي أو أقدم من ذلك.

وقد شاهدت هذا النوع من السيارات الكلاسيكية، ولكن بعدد أكبر من هذه السيارات في احتفال "Anzac day" الذي هو يوم عسكري تاريخي انتصرت فيه القوات الأسترالية في حروبها. وقد كتبت عن هذا اليوم في مقالات نشرتها في صحيفة عُمان قبل سنوات طويلة بعد عودتي من "ملبورن". رأينا العديد من السيارات البريطانية مثل "الرنج روفر وديسكوفري لاند روفر واوستين مارتن وكاجيوار وميني كوبر". كما شاهدنا رئيس الوزراء في سيارة "رنج روفر"، وشاهدنا موكبًا مع سيارة "بينتلي" فقيل لنا أنه موكب الملك.

لم أر من سيارة "الرولز رويس" إلّا 3 سيارات فقط، واحدة ذات الدفع الرباعي، واثنتين من نوع صالون، ولم أشاهد سيارة "اللاند روفر" من نوع "دفندر"، وسيارة "بيد فورد" القديمة التي كانت تستخدم في الجيش كناقلات جند وشاحنات. وطالما نحن في الحديث عن السيارات، فإنه تجدر الإشارة إلى برنامج "توب جير Top Gear" الذي بدأ بمجلة وبرنامج تُقدمه محطة B.B.C في 22 إبريل 1977. وبدأ في نسخة تليفزيونية محدثة عام 2003 يقدمه 3 من ذوي الخبرة والدراية بالسيارات. وهذا البرنامج مهتم بالقيام بإجراء اختبارات على السيارات العالمية، وإجراء مقارنات بين هذه السيارات، وفي بعض الأحيان هناك حديث عن الدراجات النارية. وتطور البرنامج، وأصبحت له نسخ في بعض الدول مثل "Top Gear" أمريكا.

ومن الأمور الأخرى التي لاحظتها أنَّ عدد الدراجات النارية والدراجات الهوائية قليل في لندن، وبعض المدن والأماكن التي زرتها خارج بريطانيا.

ومن الأمور الأخرى ذات الصلة بالسيارات، هو أنني لم أشاهد سيارة قديمة مدة وجودي في بريطانيا، بمعنى أنها مستهلكة وحالتها ليست جيدة، أو ليست بحالة جيدة.

ومن الأمور التي تستحق الإشادة هو استثمار التراث الحضاري والمعماري في السياحة، كالقصور والقلاع، والمتاحف والمعالم الأثرية، وهو ما يُسمى بالسياحة الثقافية.

ومن الأمور التي أثارت استغرابي هو حديث الوافدين والمقيمين في بريطانيا من غير البريطانيين الأصليين؛ حيث لاحظت ذلك عندما خرجت لتناول الفطور في مقهى قريب من الفندق، ففوجئت أنَّ صاحبة المقهى روسية، وتعمل معها بناتها، فكانت العاملات يتحدثن فيما بينهن بالروسية، ويخاطبن الزبائن باللغة الإنجليزية، وشاهدت ذلك في مطعم الفندق؛ حيث يتكلم الهنود فيما بينهم باللغتين الهندية والإنجليزية بنوع من التبديل بين اللغتين الذي يسمى باللغة الإنجليزية (shifting)، وقِس على ذلك بين الصينيين، وأصحاب الجنسيات الأخرى؛ فتذكرت قول المتنبي:

تجمع فيه كل لسن وأمة // فما تفهم الحداث إلا التراجمُ

ولعل هذا الأمر موجود في لندن، وبعض المدن الأخرى البريطانية الكبرى فقط، حيث أنني لم أكن أتوقع أن أرى لندن كحالها التي رأيت.

ومن الأمور الطيبة والجيدة التي استرعت انتباهي كثرة المسطحات الخضراء والحدائق في لندن، حيث يُقال إن لندن هي من أكثر مُدن العالم التي بها مساحات خضراء. ومن الأمور الطريفة أنَّ النادلات في المقاهي يخاطبن الزبون بكلمة "darling"، والتي معناها "عزيزي" كنوع من الاحترام، لكنها إذا قيلت خارج المقهى فإنَّ لها مدلولًا آخر مختلفًا تمامًا يُوحي بنوع من المغازلة.

** كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك