أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
من الفوارق المهمة بين الدراسات الدينية والعلمية، أن الدراسات الدينية تنطلق من منطلقات عقلية أو نصية في الغالب لإثبات ما ترغب إثباته، بينما ينطلق العلم عادة في إثباتاته من الواقع الخارجي، ولعل اختلاف طبيعة المواضيع التي يتناولها كل من الدين والعلم يفرض ذلك، ولأن العلم ينطلق من الواقع الخارجي لدراسة الظواهر، فهو يهتم أكثر بدراسة الظاهرة كما هي، وبغض النظر عن صحة الواقع أم خطئه.
إن أحد الأمور التي سلط العلم تركيزه عليها هو دراسة ظاهرة الدين والتدين وأثرها في الإنسان والمجتمعات عمومًا، وخاصة مع بداية القرن الحالي والذي شُنت فيه حملة شعواء على الدين والمتدينين، وزادت هذه الحملة قوة في العقد الأخير، وكان مركز السؤال هو قيمة الدين في حياة الإنسان وما الذي يُقدمه للبشر؟
ولأنَّ العلم ينظر إلى الواقع وتأثير الدين عليه فإنَّ المقارنة كانت مع ما قدمته علوم الطبيعة من تطور في حياة البشر، فالعلم أوصلنا إلى القمر بينما لم يقدمنا الدين كما يزعم هؤلاء قيد أنملة.
غير أنَّ الدراسات العلمية نفسها، كشفت عن دور هام للدين، فلقد كشفت هذه الدراسات أن ظاهرة التدين لا يمكن فصلها عن الإنسان، فهي وجدت معه بل قبل وجوده، فقد لاحظ العلماء أن ظاهرة التدين وجدت حتى عند أبناء عمومتنا النياندرتال، فهناك شواهد وأدلة تدعم وبقوة وجود ظاهرة التدين عندهم.
أما عن أثر الدين والتدين في حياتنا نحن الإنسان الحكيم كما أطلقنا ذلك عن أنفسنا، فسوف أستعين هنا ببعض ما أورده مدير مركز الأبحاث الروحية والعقلية في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة أندرو نيوبرج المتخصص في العلوم العصبية، والدكتور مارك روبرت وادمان وهو أحد أبرز وأهم الباحثين في العالم في مجال الروحانيات وعلاقاتها بالدماغ البشري، ولهذين العالمين كتب مشتركة تتجاوز العشرة فيما يرتبط بالأديان والتجارب الروحية وأثرهما على الدماغ.
وما سأورده في هذا المقال أغلبه قد تم التعرض له في كتاب لهما بعنوان
"Why God Won’t Go Away: Brain Science and The Biology of Belief"
أما سبب اختياري لهذين الكاتبين، فالذي يبدو من خلال مطالعتي لكتبهما أنهما أقرب إلى اللاأدرية، فهما لا يقران بصورة قاطعة بوجود إله خالق للكون ولكنهما لا ينفيان إمكانية وجوده، ولذا فقد يكون من الصعب اتهامهما بالمحاباة والتعاطف مع الدين والمتدينين.
يقرر الباحثان في فصل مخصص في هذا الكتاب بأن الدين وظاهرة التدين مفيدة لنا نحن البشر بصورة عميقة وعملية في الوقت ذاته، فعدد كبير من الأبحاث تظهر أن الرجال والنساء المؤمنين بأي ديانة كانت يعيشون لفترة أطول ويتعرضون لعدد أقل من السكتات القلبية ولأمراض القلب عمومًا، كما إنهم يتمتعون بتحسن ملحوظ في وظيفة الجهاز المناعي وانخفاض ضغط الدم مقارنة بالآخرين. وينقل الكاتبان عن الدكتور هارولد كوينج من المركز الطبي بجامعة ديوك والذي قام بمراجعة أكثر من 1000 دراسة حول أثر الدين والتدين على الصحة قوله: "الافتقار إلى المشاركة الفاعلة في الأنشطة الدينية أدى إلى تفاقم المشكلة وأن أثرها -أي غياب المشاركة في الأنشطة الدينية- على الوفيات يعادل تدخين علبة سجائر واحدة في اليوم لمدة أربعين عاما".
ويرى الكاتبان أن أثر الدين والتدين لا يقتصر على الصحة البدنية؛ بل يتجاوز أثر ذلك إلى الصحة العقلية، فهناك أبحاث متنامية تربط بين الدين والتدين وتحسن الصحة العقلية، ويؤكد الباحثان بأن ذلك كان بمثابة صدمة لمجتمع الطب النفسي الحديث والذي لا يزال ينتهج المنهج الفرويدي ويرى في التدين بأنه حالة مرضية يجب التخلص منها.
وأظهرت البيانات الحديثة أن الاعتقادات والممارسات الدينية يمكنها تحسين الصحة العقلية والجوانب العاطفية بصورة مختلفة، فقد أظهرت الدراسات المختلفة إن تعاطي المخدرات وادمان الكحول والطلاق والانتحار أقل بكثير بين المتدينين مقارنة بالآخرين وأن الممارسين للطقوس الدينية المختلفة هم أقل عرضة للمعاناة من الاكتئاب والقلق، كما إنهم يتعافون بسرعة أكبر من غيرهم بل إن الطقوس الدينية والتي لها طابع روحي مثل الصلاة أو المشاركة في تقديم الخدمات المرتبطة بالممارسات العبادية، تقلل من مشاعر القلق والاكتئاب بشكل كبير، كما أنها تعزز من احترام الذات وتحسن من العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وتولد نظرة إيجابية نحو الحياة، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن الايمان بالدين يضيف معنى للحياة وهدف واضح يسعى له المتدين.
ويُقِر الباحثان بأن هذه الدراسات لم تكشف عن الأسباب القطعية وراء التأثيرات الإيجابية للدين، لكنهما يعتقدان بأن السلوكيات الحميدة التي تعززها الأديان تلعب دورا هاما في ذلك، فمن خلال تحريم المخدرات وتعاطي الكحول وغيرها من المحرمات فإنها تشجع على أنماط الحياة المستقرة والمعتدلة كما أنها تشجع على الاستقرار الأسري.
ويشيد الباحثان أيضًا بشبكة الدعم الاجتماعي الذي تتميز به المجتمعات المتدينة، فالدعم العاطفي من الأصدقاء وأفراد الأسرة من العناصر المُهمة جدًا في الصحة النفسية؛ بل وفي تنمية الصحة العقلية وخاصة لكبار السن، وهي كلها متوفرة في المجتمعات الدينية والتي تتميز بقوة تماسكها مقارنة ببقية المجتمعات.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس