القصة العالقة (14)

 حمد الناصري


لا تزال صُورة الرجل في مُخيلته لم تُفارقه، أخذ أحمد يتنبّه تدريجياً، وفي مُخَيّلته الحوار الذي دار مع ذلك الرجل المُهيب، وأردف:

 

ـ في الحقيقة ـ يا سيدي ـ لا ندري أشرٌ أُرِيدَ بنا أم أرادت بهم سُبلهم الغامضة، أم السماء ألهمتهم قِيَمها، فجاؤوا بنظرية "فرّقْ تسَدّ" نظرية بائسةٌ فظّة تَستضعف بِسُبلها أهلنا وساحلنا الطويل المليء بالثروات وكنوز لا تُحصى.؛

 

ـ كم قلت لك ـ يا بُني ـ إنّ الغُرباء خصْمٌ لَدود، منذ زمن بعيد، وهم في تُراثنا، يُعادوننا ويكرهوننا ويَحقدون على تقاليدنا ويَحسدون تعايشنا مع بعضنا وبإيماننا تقاربنا معهم، ولكنّ قلوبهم طُبِعت على تقاليد هُوّدوا بفطرتها، بشرٌ مَردوا على النفاق وأفئدتهم مُلِئت دسائس وعُمِرت بالحِيَل الخبيثة، كذّابين بنصٍ يُتلى ، فُتِنُوا بالخيانة ، يَغدرون ببعضهم ، حيارى  ، تائهون ، لا يُمَيّزون بين حَسَنٍ وقبيح، جاؤوا بدسائس لا يغفلون عنها ولا هُم يترددون عن رَيْبهم ، يشكّون في انبعاثهم ونشأة العَدم ، يُشَرّعون لأنفسهم ولا يتحرّجون من تبرير أفعالهم القبيحة ، يَعُدّونها تجربة مِثالية تُحتذى بتفضيل اختصّت به ، وعليها تساوقتْ فلسفة أهدافهم مُعلنة في تقاليدهم وموروثهم ، قوم لا عهد لهم ، ولا إحساس غير نقاشات لا طائل من ورائها ، ومَثلها في المُستوى الحُزن والشدّة والبطش.!

بُنيّ.. إنّ خير ما أوصِيك به، خالفوهم ولا تقربوهم.! واحذروهم، إنهم قومٌ هادوا على الغدر ونَغمة الخيانة.

 

ـ ولكنّ أعراقهم ماهيَة وحقيقتها مُنحدرة من رمالنا الذهبية وعُرقهم في دمائنا مُنذ القِدم.

 

ـ عُرق لا خير فيه، خيّبوا أمل الربّ فيهم، وضيّعوا كل ظنّ بالسُوء والخراب، دماءٌ سيئة ووجوهٌ قبيحة، فرّقوا رجالنا، قتلوا وعاثوا فساداً في أرضنا، حاصروا مَن قَبْلنا اقتصادياً، مزّقوهم اجتماعياً.. إنهم قومٌ لا يأتيهم الخير البتّة ولا يأتون بخير.. يَنهبون أموالنا ويَضُلون أبنائنا، يَسرقون تُراثنا في السِرّ والعَلن وتأبى أنفسنا أنْ نردّ بالمِثْل.. فلدينا ما هو أعزّ من أنفسنا، تاريخُنا مُوثّق في تُراثهم.

 

 

تأوّه أحمد وتنهّد بعمق وأردف:

 

ـ أيها الرجل الرائع، لقد توسّمت فيك الاثر الجميل واليقظة الواعية، عَقلك نشط، أفكارك إبداع.

 أنتَ فلسفة مِثالية وحِكْمة مُحفّزة مُرتبطة بأفكار راشدة، تمتلك جُملة من الصّفات ذات الاثر الجميل، مُتكاملة إلى حدٍ بعيد، نقاءٌ مُتوقّد، حاد البصيرة، نجاح مُتميّز، صفاءٌ وتسامُح، كالشمس مَشاهدها لا تُنسى وإنْ غابتْ تفاصيلها تبقى في الذاكرة لا تُمّحى.

 

ـ تريّض قليلاً ، وافهم كثيراً ، أحداث تتسارع والقرية العالقة لا يُمكن تعويضها، انتبهوا الساحل يتهادن ويُهَوّد ، احتمالات مَبثوثة ، وفُرص تتبَلْور كشَمس حارقة ، تلفح وجوهاً خُذلت ، وعُرْبٌ هادنتْ ليست حقناً لدمائكم ولا تحصيناً لتراثكم ولكن نكاية بالقرية وإذْعاناً بردّة شرارة جديدة ، يدقّون طبول المُهادنة ويتآمرون لخيانة الإرث العظيم.

 

 ارتبك أحمد، فقد رباطة جأشه، لا يدري، ماذا يفعل؟ تغيّر لونه، غضبَ واضْطرب.. وحدّث نفسه، يُنازعوننا في إرثنا، يُؤذوننا في أرضنا ... سكت ولم يبزم بحرف.

 

والتفت إلى الرجل ذو الاثر الجميل.. وقال:

 

ـ سيدي أنا مُطمئن بكَ، فأرْشِدني إلى خير القرية، أرشدني إلى تاريخ قويم وإلى نَصْر أسْتلهم منه تُراث أجدادي.. بالصَبْر والمُثابرة.. أرشدني لكيْ نتخذ قراراً عادلاً.

 

 

ـ أنت ـ يا أحمد ـ تمتلك قوة وشجاعة ونباهة وفِطْنة، وتحمل في جُعبتك الكثير، وفي نفسك رُكْنٌ شديد، عزمٌ بالصِدق، فهيمٌ بالمَنطق، حاذقٌ وفطن.. وكما قلت لك.. كُلّ الأخطاء واقعة بين الغفلة والزلّة.؟

 

ـ أهلنا يقولون "دريشة يجي منها الريح سِدّها وأستريح.؛" لكن أحداث الغُرباء لا تجعلنا نسدّ الريح فنستريح.. إنهم خُبثاء ماكرون، يُفكّرون لانفصالنا عن بعضنا، ويُقَطّعون صِلاتنا ليسهل عليهم إضْعافنا، وتقسيم أرضنا وسرقة ثروة الوطن الكبير.؛

 

ـ لذلك، أنا ناصحٌ لك ولأهل قريتكم، فلعلّك لا تراني بَعد هذه اللحظة.؛ كُن مع الرجال ودافع عن القرية، ولن يضيع الحق أبداً وكُلّ مَفقود يعود إلا الوطن والروح.؛ وما أُقْتِطع من الوطن سيعود يوماً فلا تعجل، فالأفكار السيئة لا تدوم.

 

شعر أحمد بسرور كبير في نفسه، وقال مُتشدّقاً:

 

ـ رجال قريتنا أوفياء مُخلصون لوطنهم.. ترى الواحد فيهم عدْلٌ في صَمته، ذو أدبٍ وأخلاق وسَمْت، رجالنا قوم ذو شجاعة وإلتزام وشرف، لا مُتمرّد بينهم ولا مُستخفّ، يتحدّث الرجل وكأنه قامة وطن، يُناطح السحاب رِفْعة.؛

 

سكت طويلاً ثم أردف:

 

ـ قريتنا العالقة، وساحلها الطويل فيهما منافع للناس. لكن المشروع الساحلي، أفسد علينا الأثر الجميل، أفكارهُ سلبية، ومشروعه دمار القرية، عربدة القوة لن تُجدي نفعاً مع الأهالي، وكُل مأخوذ قسْراً سيعود كاملاً.؛

 

عقّب الرجل المُتخيّل:

 

ـ فكرة المشروع مَنفعة القرية.. ولكنّ المسؤولين تمرّد بعضهم وتشدّد، وفرض آلية تنفيذية قاسية. وأنا أحمّلهم إشعال الفتنة.

 

قاطع أحمد مُحدثه المُتخيّل:

 

ـ المشروع ـ يا سيدي ـ وكما يبدو، أهداف واقعية على الأرض يخلو مِن رُؤية واضحة، أهداف لا سِمات لها ولا وضوح غير إذلال الرجال.

 

ـ مخاوفكم مشروعة ومُستقبل القرية بأيديكم، وكُلّ طُموح مُبشّر بالمنفعة وجاذب للفوائد. وليس هناك أمْراً خالياً من الاسْقاطات، سواء في القِيَم أو في التقاليد المَوروثة؛ وأكاد أجزم بأنّ واقع الحياة سيزدهر.؛

 

قال أحمد بحزن مُخالفاً الرجل القُدوة:

 

ـ سمعنا كثيراً بأنّ القرية ستزدهر، وأنّ الوِحْدة الساحلية ناشطة لا شُبهة فيها ولا خطر مُنتظر.. ورغم تلك التهدئة سُؤال يشغل بالي ويُشوش أفكاري، هو كيف نطمئن على اتحاد الساحل؟  ومتى سنكون على يقين بأنّ مُهادنتها لا ترتدّ على قريتنا.؟! لا بُد أنْ نكون على استعداد لأيّ تقلبات قد تحدث، فالحماقة جهل غالب على أمرهم، والشرّ حماقة والبغضاء جهل وغباوة، نحن لن نسكت عن امتدادنا، وما يُنسب إليهم من ضررٌ كبير او صغير هو ضررٌ كبير على ساحلنا الطويل.. وإنْ لم نتحكّم في تصويبها من الآن فلن تطمئن قريتنا ولن نتغلّب على حماقة الهُدنة ولو مُؤقتاً.؛

توقف بُرهة ثم أردف:

ـ وتلك الهُدنة يا سيدي الحكيم، ليس فيها حِكْمَة ولا أمل ولا سلام، بل هيَ هُدنة غير قويمة، سِهامُها مُوجهة إلينا ووضعوا في طريقنا مُهادنات مُتفرقة، سَمّوها بإسْمنا، وأخرى لُصقت بساحل مجهول.. يُداهنوننا بمكرهم ونحن عن مكرهم غافلون، ذلك الخطأ نشأ عن إهمال بعضنا ودليل قاطع عن كيد أريد به إضْعافنا وتسبّب في مُضايقات خطيرة لم نتنبّه إليها إلا بعد حين من الدهر.

إنه لحرج اجتماعي، يُنذر بالخطر وتعميق الاختلاف وتصعيد الخِلاف سراً وعلناً، فتنفيذ اتفاقات لا سبيل لنا فيها ولا منفعة...!

 

ابتسم الرجل المُتخيل:

 

 ـ أتظنّ أنّ الإسقاطات ستؤثّر على القرية، نعم هي تغييرات عميقة ولكن الأرض ثابتة ولا يعني ذلك بالضرورة جَعْل القرية معزولة عن مُحيطها.؛ القرية العالقة وطن المعرفة والقوة والشموخ وتجربة المُهادنة لا تعني التوقف، فالخطأ والصواب مُمتد ومُستمر.

 

تردّد أحمد وحكّ أرنبة أنفه وشنّك حاجبيه بقوة:

 

ـ ايها الرجل الرائع.. اقصد أننا لا نُريد رُؤية هشّة في ساحلنا الطويل ولا نُريد انهزام ومُهادنة ترتد علينا.؛ ولكنّا نُريد نظرة تتناغم مع تنمية مُزدهرة نشترك فيها معاً.. ذلك لأنّ حقّنا غاية مَطلبنا، فمنذ نعومة أظفارنا ونحن نُجنّب ذلك الساحل المُهادن، ونبني مُستقبلهم ليبقى مُستقراً في حُضن الوطن الام.

 

إلتفت يمينا ويساراً.. وهزّ راسه مُطمئناً وتمتم .. المال لا يأتي بوطن مُستقر ورجالنا رِفْعة الوطن.!

تعليق عبر الفيس بوك