غزة.. بابٌ للخروج من التيه

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

اعتقد جازمًا أني لست الوحيد المهوس بملحمة الشرف والجهاد في مدينة غزة، وبما يمثله مقاوموها من بسالة على الأرض، رجال مثقلون بظلم المعتدي الصهيوني، نساء لا يملكن سوى الدعاء لفلذات أكبادهن، في أجواء أمّة تاهت في سراديب عالم يكيل بأوزان الشر والظلم، مقاومون تمردوا على رتابة خطوات التيه المكررة، أثارت في نفوسهم الضجر فعادوا لفطرة الدفاع عن الأرض والعرض، دقوا طبول الحرب ضد المعتدي، وأسمعوا أزيز رصاص بنادقهم، فامطرتهم أمتهم ملامة وتوبيخًا.

نعم .. مهوس بهذه المدينة، وما تمثله من ذكريات لملاحم الأمة قبل أن تسير في نفق التيه، من رحم شعب مثقل بالهموم، وأمهات لا يملكن سوى الدعاء لأطفالهن الذين خرجن بهم إلى الدنيا، اعتدن أن يرينهم بقربهن طوال الوقت،  كبر الأطفال، وتعودوا على قضاء جل وقتهم دفاعاً عن الحمى، تمردوا على رتابة وجه أمتهم المكرر الذي يثير في نفسهم الضجر، وهي تأخذهم إلى أرض أخرى ليذوبوا مثل سكر في تيهها.

إن مضمون ما أكتب هو إحساس بأن كل من يعيش في غزة  يسير بخطى وئيدة وسط ركام جرائم الصهيونية، يراقب مشدوهًا مواقف الأمة، حين يراها بصورة لم ير مثيلا لها من قبل، هي في تيه يحمل سيلا من الخذلان، تتركه في غابة مليئة بالوحوش تنهش في جسده، وتنبش في أرضه.

كل ما في حلم الأمة بيت أو ملجأ يأوي أبناء غزة متى أحسوا بالتعب من قسوة الغاصب المحتل، وأقصى ما تطرحه لتخليصهم من مخالب الوحش الجاثم على حياته، هي مبادرات الهجرة، سميت بأسماء سمتها وحوش الغابة، في ظل هذا التيه، كتب أبناء غزة بدمائهم وأشلائهم بيان عريضتهم "جهاد أو استشهاد"،  لكن أمتهم ظلت تناقش مع من سلبهم حريتهم مُسميات مبادرات تشريدهم، وتركتهم دون بيت في وطن مستباح، على زاوية بشارع غير مُعبد يحتسون التنكيل والعذاب.

أخذ رجال المقاومة في غزة، بما أمر به ربهم، ليسطّروا ملحمة تاريخية تخرج الأمة من التيه،  فتحوا باب الجهاد، سقطت الأقنعة على الأرض، حينما فتح باب الخروج من التيه، استشاطت وحوش الغابة غيظًا، لكن رجال المقاومة في غزة، لم يقولوا: إنَّ فيها قومًا جبارين، بل دخلوا من الباب وهم واثقين بالغلبة، متوكلين، مؤمنين بنصر الله، فأفرق الله بينهم وبين القوم التائهين من أمتهم، أسرعوا الخطى خوف التخلف عن الجهاد، لإدراكهم أن عقوبة التيه تشمل كل من فعل فعلة بني إسرائيل من الأمم من بعدهم، قال تعالى "فكلًا أخذنا بذنبه" (العنكبوت: 40)، حاشى الله أن يحابي أحدا من خلقه، والشرع لا يفرق بين متشابهين، ولا يساوي بين مختلفين، لقد أبصر رجال غزة أنه مع أننا خير أمَّة أخرجت للناس، إلّا أن الأمة دخلت تيهاً أكبر مما دخله بنو إسرائيل، بتخلفها عن أمر من أوامر الله؛ عندما تركت الجهاد ونصرة المظلومين فيها، فكان عليها حقًا أن تدخل ذلك التيه، بنو إسرائيل دخلوا  التيه في واد واحد وهو سيناء، إلّا أن أمّة المليار دخلت في أودية متفرقة.

لقد دخلت تيها في العلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية، ومع الأسف، أخذ كل تيه أكثر من أربعين سنة، ومازالت في التيه، وربما يطول بقاؤها في التيه لسنوات، أراد رجال غزة تمكين الأمة بإرضاء الله؛ قال تعالى "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 55)، كان التيه للأمة عندما ابتعدت عن وعد التمكين الذي وعدها به الله في الأرض، وتركها للجهاد، وإدخال الدين الإسلامي لكل بيت كان من مدر أو وبر، فكتب عليها التيه كعقاب تربوي رباني، لأجل الامتثال لأمره عز وجل، كانت مدة التيه لبني إسرائيل حينما هاموا على وجوههم في الصحراء أربعين سنة، انقطعت بهم السبل، لا ظل، لا طعام، لا شراب، وكان المصدر الوحيد لهذه الضروريات هو الله سبحانه وتعالى، بمعجزات ظاهرة، لترسخ عندهم عقيدة التوكل على الله، وأن الله على كل شيء قدير، وقد تعلق رجال غزة بالتمكين كمعجزة ظاهرة ليعطوا درسًا للأمة، فكان التمكين أول أسباب نصرهم، فيسر لهم الله الأسباب رغم توهان أمتهم، ومع هذه الأسباب أتت أيضا الابتلاءات لتقيم صبرهم نتيجة فتحهم لباب الخروج من التيه، بمقارعتهم طاغوت العصر، وهم موقنون بأن قلّتهم ستغلب كثرة الظالم بإذن الله.

إنَّ طول مدة تيه الأمة وقصرها، والخروج منها، متوقف على مدى امتثالها لأمر الله عز وجل، وسعيها لذلك، بكل ما أوتيت من قوة، والعمل على مناصرة أهل غزة في جهادهم للآخذ بترباس باب الجهاد الذي فتحه رجالها الأشاوس، وأن لا تحزن للابتلاءات، فما هي إلا اختبارات لإظهار مدى استجابتها لأوامر ربها، والصبر عليها، بل عليها السعي المستمر، للتأمل في الفتن التي يحيكها لها عدوها، والبحث عن ما يرأب صدعها، والخروج من التيه عبر باب غزة المشرع، والعودة إلى مكانتها التي وصفها بها الله تعالى في قوله: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 110).

تعليق عبر الفيس بوك