الانحطاط الأمريكي

 

مدرين المكتومية

قنبلة مدوّية أحدثتها القائمة التي جرى الكشف عنها ضمن مستندات ووثائق رُفعت عنها السرية في قضية المخرج الأمريكي جيفري إبستين، والذي اتُهِّم بجرائم أخلاقية في مُقدمتها الاعتداء الجنسي على قاصرات، وتسهيل مُمارسة الدعارة وغيرها من الموبقات التي تنأى عنها النفس البشرية السوية.

المُفاجأة لم تكن وحدها في الأسماء التي وردت على هذه القائمة المشبوهة، ولكن أيضًا في التفاصيل التي تضمنتها القضية وكُشِف النقاب عنها، وبرهنت بما لا يدع مجالًا للشك على مستوى التراجع الأخلاقي الذي أصاب المجتمع الأمريكي، ويبدو أنَّ أفلام هوليوود بحبكاتها المختلفة باتت أقل حدة وصدمة عن الواقع المُزري الذي تعيشه قطاعات بعينها في الولايات المتحدة. فبعد أن كُنا نعتقد أنَّ ما نشاهده في أفلام الحركة "الأكشن" وأفلام العصابات الأمريكية مجرد أعمال درامية، اتضح أنَّ الواقع أشد وطأة وأكثر سوءًا مما نتخيل. فكيف لمخرج سينمائي مهمته في الحياة صناعة الوعي وإسعاد الجماهير عبر تقديم محتوى سينمائي هادف ومُسلٍ، أن يتحول إلى وحش كاسر يُتاجر بأعراض الفتيات، ويمارس الابتزاز الجنسي ضد سياسيين ومشاهير، وما خفي أعظم! فعندما نرى القائمة المشبوهة التي وردت في ثنايا القضية تضم رؤساء أمريكيين سابقين أمثال بيل كلينتون ودونالد ترامب، والمحامي آلان ديرشوفيتز، الذي عينته دولة الاحتلال الإسرائيلي للدفاع عنها أمام محكمة العدل الدولية، في قضية الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني. وغيرهم الكثيرين من مشاهير من الفنانين ونجوم التلفزيون، ووزراء وأمراء، الذين كشفت هذه القائمة عنهم وفضحت حجم الانحطاط الأخلاقي الذي كان عليه هذا المخرج والكثير من المشاهير الذين تورطوا ووطئت أقدامهم جزيرته الملعونة، تلك الجزيرة التي كانت مرتعًا لكل أنواع الخطايا الإنسانية.

هذا التراجع القِيَمِي يؤكد أن المجتمع الأمريكي آيل للسقوط الأخلاقي المُدوّي، بسبب ما تمارسه قيادات هذا المجتمع ورموزه ومشاهيره من أعمال تتعارض مع الطبيعة البشرية السوية النقية، وتؤكد توقعات كُتاب ومُحللين طرحوا نظريات ورؤى ثاقبة توضح بجلاء ما أصاب الحضارة الأمريكية من انتكاسة حادة وشديدة، بسبب تخلي غالبية الأمريكيين عن القيم والمُثُل التي يجب أن يكونوا عليها باعتبار الولايات المتحدة واحدة من الحضارات المدنية الحديثة التي أسهمت في تطور وتقدم البشرية، لكن يبدو أن عصر أفول هذه الحضارة بدأ منذ سنوات وسيستمر، وربما في غضون سنوات قليلة لن تكون هناك قيم أمريكية ولا حضارة أمريكية يتشدق بها البعض ويزعم أن لها فضل على التقدم البشري!

والأسوأ من هذه القائمة ما كُشف عنه قبل يوم، على لسان أحد ضباط جهاز الموساد الإسرائيلي، والذي قال فيه إن المخرج الأمريكي جيفري إبستين كان عميلًا للموساد، وأنَّ هذا الجهاز الاستخباراتي جنّد إبستين كي يسهل عليه ابتزاز الساسة والمشاهير، وتوظيفهم في خدمة الأهداف الصهيونية. وفي حقيقة الأمر لا أستبعدُ صحة هذه الأقاويل؛ بل ربما لن نجد أي تفسير منطقي لما كان يقوم به هذا المخرج من أفعال مُشينة، في جزيرته المعزولة. ولذلك لا يجب أن نستغرب أن المخرج جيفري إبستين مات في محبسه قبل استكمال التحقيقات في القضية والحكم عليه، وزُعِم أنَّه مات "منتحرًا".. وهنا يمكن أن نضع مليون علامة استفهام وتعجب على هذا "الانتحار"؟!

من المؤسف القول إننا بتنا نعيش في عالم تسوده الأفعال المُشينة، وتُرتكب فيه الجرائم دون عقاب، وتُسلب فيه الحقوق من أصحابها بلا وازع من ضمير، وما حدث في قصة هذا المخرج الأمريكي لا يختلف كثيرًا عمّا يتعرض له الأبرياء حول العالم من ظلم وعدوان، ومنهم الشعب الفلسطيني الأعزل، الذي يُناضل من أجل حقه في الحياة، ومن أجل حقه في الحرية والكرامة الإنسانية، لكن أمثال جيفري إبستين ودعاة الرذيلة والعُهر السياسي في الغرب، يقتاتون على موائد المُستضعفين، فيمتصون دماءهم ليُضاعِفوا ثرواتهم التي جنوها من الحرام وعلى جثث الأبرياء.

لكن لا يجب علينا أن نفقد الأمل في مستقبل يسوده العدل والمساواة والكرامة الإنسانية، فكل من تعرض لظُلم سينتصر على من ظلمه، وكل من سُلبت حقوقه سيستردها يومًا ما قريبًا، لأنَّ سُنّة الله في كونه لا تتبدل ولا تتغير، ومهما يُمهِل الله الظالمين، فإن العقاب الأليم سيقع عليهم.. وستعود الحقوق لأصحابها، وسيرفع الشعب الفلسطيني راية النصر، وستعود أغصان الزيتون خضراء كما كانت تُضفي بهجة وجمالًا على كل بقعة في الأرض المباركة، وسترفرف حمائم السلام فوق غزة والضفة وأريحا والقدس الشريف، وسيندحر الظلم، قريبًا.. قريبًا.. قريبًا.