الميزانية وملامح المستقبل

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

مع بداية كل عام ميلادي يتركز الحديث عن الميزانية العامة للدولة، والتي جرت العادة أن يكون مرسوم إقرارها هو المرسوم الأول في كل عام، وفي هذا العام كان الحديث عن الميزانية العامة للدولة يتسم بالإيجابية والتفاؤل، خاصةً مع ما حملته المؤشرات من قراءات تبين أن خطة التوازن المالي التي أنتهجتها الحكومة بتوجيهات من حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- آتت ثمارها وبدأت كثير من المؤشرات الدولية والتصنيفات التي تصدرها المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية تعكس هذا التحسن والنمو وبدأت تُظهر النتائج التي حققتها خطط الحكومة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والمالية، وآثار جائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط حول العالم .

وبالنظر إلى الفترة الزمنية القصيرة- وهي قياسية بمعنى الكلمة- التي استطاعت خلالها سلطنة عُمان تجاوز كل تلك التحديات سابقة الذكر، وهو ما يدعو للفخر والإشادة بالجهود التي بذلت من الجميع وفي مقدمتهم المواطن العماني، الذي أظهر مدى إخلاصه وحبه لوطنه وقدم الكثير من التضحيات وتحمل عبء الأزمة. وهذا الأمر ليس بغريب على شعب بذل الكثير في سبيل بقاء هذا الوطن وتماسكه، ومازال مستعدًا للبذل والعطاء عندما يتعلق الأمر بسلطنة عمان الأرض والمصير.

وفي المقابل، المؤشرات التي أعلنتها وزارة المالية عن ميزانية 2023، تظهر تحسنًا في الإيرادات؛ حيث بلغت 12 مليارًا و213 مليون ريال عماني بنهاية 2023، بزيادة قدرت بنحو 21.2% عن عام 2022، وجاءت هذه الزيادة نتيجة عوامل أساسية مثل زيادة أسعار النفط والغاز، وتعد هذه الزيادة إنجازًا مُهمًا؛ حيث إنها ساهمت في القضاء على العجز المالي في تلك السنة، وحققت فائَضا ماليًا، وساعدت على تقليص الدين العام من خلال إعادة جدولة جزء منه بفائدة أقل. وفي الجانب الآخر توقعت موازنة 2024 زيادة الإنفاق العام بنسبة 2.6% عن العام السابق؛ بفضل تحسن أسعار النفط وإجراءات الضبط المالي ورفع كفاءة الإنفاق وتحسن الإيرادات.

جميع الأرقام التي ذكرت في الميزانية العامة للدولة 2024، جاءت إيجابية وحملت زيادة في عديد من البنود، خاصة تلك المتعلقة بالتنمية، فيما خُصصت الفوائض المالية التي حققتها الدولة في 2023 في جانبين مهمين وهما: تعزيز الإنفاق الاجتماعي وتحفيز النمو الاقتصادي، وكذلك في تخفيف الدين العام، وهذا بدوره سوف يساهم في تحسُّن المؤشرات والتصنيفات الدولية للسلطنة، مما يعني سهولة الحصول على العديد من الامتيازات الاقتصادية والمالية مستقبلًا، والتي بكل تأكيد سوف تعزز من مركز سلطنة عمان المالي.

ربما الحديث حول ما حملته الميزانية العامة للدولة من مؤشرات إيجابية يحتاج إلى الكثير من التحليل والتعمق من قبل المختصين، للحديث عن ذلك والأسباب التي ساهمت في هذا النمو والظروف والعوامل التي أثرت فيه، ولكنني هنا بصدد الحديث عن ما يهم المواطن بالدرجة الأولى، خاصة وأن الشهور الأخيرة من العام الماضي شهدت صدور قانون الحماية الاجتماعية، وفي هذا الجانب ركزت موازنة 2024 على مستهدفات مُهمة تسعى الحكومة لتحقيقها؛ ومنها: الاستمرار في تعزيز جودة حياة المجتمع ورفع مستوى الخدمات الأساسية، وفي هذا الإطار حظيت قطاعات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي والإسكان بما نسبته 40% من إجمالي الإنفاق العام، وارتفعت حصة منافع الحماية الاجتماعية لتصل إلى 560 مليون ريال، فيما أطلقت الحكومة برنامج "إسكان" لتسهيل وتسريع وتيرة الحصول على القروض الإسكانية بمبلغ مليار و900 مليون ريال، وهذا المشروع يعد نقلة نوعية في تاريخ المبادرات الحكومية لمشاريع الإسكان.

وفي ظل النهضة المتجددة بقيادة جلالة السلطان المفدى- أعزه الله- نشهد العديد من البرامج التي أطلقتها الحكومة لتسهيل امتلاك المواطنين للمسكن الملائم وفق برامج مُيسِّرة، وذلك إيمانًا بحقوق المواطنين التي كفلها النظام الأساسي للدولة وضمنتها التوجيهات السديدة من القيادة الرشيدة، التي تضع المواطن في صدارة سلم أولويات التنمية، ومن أجل ذلك كان الإسكان محور الاهتمام ومن بين المبادرات التي أطلقت خلال الفترة الماضية إعفاء 700 أسرة من سداد القروض الإسكانية من الذين يقل دخلهم عن 350 ريالًا بتكلفة إجمالية بلغت 13 مليون ريال في العام 2021، وكذلك إعفاء 1600 أسرة من القروض الإسكانية من الذين يقل دخلهم عن 450 ريالًا بتكلفة إجمالية بلغت 30 مليون ريال، وتقديم منح إسكانية لعدد 1400 أسرة بتكلفة إجمالية بلغت 35 مليون ريال. وفي عامي 2022 و2023، تم  منح 1200 أسرة مساعدات إسكانية بتكلفة إجمالية 35 مليون ريال، مع زيادة المنحة من 25 ألف ريال إلى 35 ألف ريال، ليأتي هذا العام ويشهد تدشين برنامج "إسكان" بقيمة مليار و900 مليون ريال، وهذا ما سيكون له الأثر الإيجابي على المواطنين وعلى حركة السوق والاقتصاد الداخلي.

ما تقدمه الحكومة من برامج خاصة فيما يتعلق بالإسكان، هو جزء مهم من مسيرة التنمية التي تستهدف الإنسان بالدرجة الأولى، وحق من حقوق المواطنين يساهم في الاستقرار الأسري وينعكس أثر ذلك على العطاء لهذا الوطن ويعز الارتباط بهذه الأرض الطيبة، ويغرس لدى الأجيال قيم الانتماء والتضحية لهذه الأرض، إن الدول تتقدم عندما تضع تنمية البشر في سلم أولوياتها، وعندما تقدم الخدمات كحق من حقوق المواطن، وعندما تعزز المواطنة الصالحة عندها تسود قيم المساواة والعدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن، من أجل ذلك جاءت الخطط والاستراتيجيات لترسيخ معنى الدولة العصرية القائمة على أساس توفير الحياة الكريمة لأبنائها، ومن أجل ذلك ستبقى سلطنة عمان دولة المبادئ والقيم والثوابت، شامخة بعزيمة أبنائها وحكمة قيادتها الرشيدة، تمضي سفينتها إلى بر الأمان.

والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك