قسوة ضياع الهيبة وتبخُّر السيطرة الإسرائيلية

 

سليمان المجيني

tafaseel@gmail.com

 

تتدرج بعض البلدان من خلال مستواها الفكري والعسكري ضمن البلدان ذات المكانة العليا في قلوب أو عقول المواطنين ثم تخرج هذه المكانة من نطاقها المحلي لتقابل بها الجماهير العريضة من شعوب ودول العالم، تُبنى لتشكل هيبة كبيرة أو احترامًا مقدرًا من الشعوب والدول الأخرى، وتعتبر صفوة التحضر والتمدن، ثم تبقى مترسخة حتى يأتي أمرٌ ما يكون سببًا في اهتزاز هذه المكانة فيزيلها كفكرة ويحجبها كحقيقة بالقدر الذي كانت ظاهرة عليه.

لا شك أن القسوة التي تحدث للكيان الإسرائيلي ليس في قتال بضعة رجال من قبل مقاومة أو فصائل صغيرة لجيش منظم وكبير غير قادر على هزيمتهم!، أو في وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى والمعاقين ذهنيا وبدنيا، باعتقادي أن هذا الأمر ليس بوزن تأرجح هذا الجيش وضياع مكانته، وتذبذب أدائه الذي يظهر عدم تماسكه، وعدم قدرته على إيضاح ضعفه للعالم حتى يعتقد أن قتل امرأة حامل وأطفال لا حول لهم ولا قوة إنجازا، المشكلة في المكانة التي بناها على أنقاض قتلاه وسوء صحافة العالم وإعلامه الذي لم يصوره كمحتل، وأطلق عليه أوصافا كالجيش الذي لا يقهر، وغيرها من الألقاب، حتى أن اليهود صدقوا ذلك وتصرفوا على أساسه.

وكما فخموا لنا آلات حربهم يمارسون نفس الدور بإعلامهم الذي تسانده الآلة الإعلامية الغربية فيضخمون لنا الصغير ويقزمون غيرهم، يضخمونه من حيث عدد المقاتلين أو عدد المعدات وتطورها وندرتها، الأمر الذي لا يستطيعون تصديقه أو التماهي مع واقعه هو أن مجموعة من شباب فلسطين الأقوياء المتسلحين بدينهم هم سبب ضياع هذه الهيبة وغياب السيطرة والسمعة المعتمدة على الأخبار الزائفة كقوة قتالية لا يضاهيها بأس في العالم؛ فصور الهروب والصراخ والاكتئاب والجنون الذي أصاب عناصر الجيش أمر نشاهده ونسمعه كل يوم.

ضاعت معنويات الجيش الإسرائيلي بل وحتى المسؤولين بسقوط هذا الأمر الهلامي الذي كانوا يحيطون به أنفسهم، المهابة، العظَمة، هيلمان القوة، السيطرة، والحقيقة أن ما تبنيه إسرائيل في سنوات تأتي المقاومة لتنسفه في فترة قصيرة.

الإعلام والصحافة والحرب الثقافية التي وجّهت سياطها على العرب والمسلمين كافة لعشرات السنين لا تبدأ بثمارها أو تكاد إلا تأتي المقاومة لتحبطه، لذا فلا بأس أن تستقوي هي كدولة مارقة على السكان الآمنين فتدمر منازلهم وزرعهم ومستقبلهم، وتصورهم بالوحوش البشرية لتأخذ الشرعية من الغرب المتآمر.

الحقيقة أن الهالة الكبيرة التي أحاط جيش الاحتلال نفسه بها على سبيل القوة والمنعة أورثته الغبن والهلاك، وحتى تلك الهالة التي يصفون بها أنفسهم والتي تصل لقداسة بعض تعليمات التوراة المحرفة هي سبب كره الشعوب وبغضه لهم، فما يحدث في الجنود الإسرائيليين من ذعر لدرجة الكوابيس وقتل رفاقهم في الميدان، وظهور ما يسمى بهوس الأنفاق حيث يشعر بعض المستوطنين أن ضربا وقدحا يأتي من تحت منازلهم في إشارة لأعضاء المقاومة الذين سيأتون لقتلهم إلى منازلهم عبر تلك الأنفاق أسقط القناع عن بني صهيون.

ضعف تلك المعنويات وضمورها يرجع إلى أفول الهدف واستحالة تحقيقه، بل وتصرّم الغاية من هذا القتال، قتال لا ينبئ بانتصار محتم أو حتى شبه انتصار، فهل يمكن الانتصار على الفكرة؟، فكرة حماس وغيرها من حركات التحرر ستظل حاضرة وموجودة حتى لو تم اغتيال جميع زعمائها وسيظهر من بينهم من يبدأ من جديد كمكون تحرري ينشد تحرير الأرض بعمق أكبر وجرأة وجسارة وإقدام.

من الواضح لمن يقرأ الموقف جيدًا، أن الإعلام الغربي وإعلام المحتل أصبح أكثر نضجا، على الأقل من خلال هذه الحرب، أستشعره في ممارسة الضغط على حكومة نتنياهو من خلال بث بعض المقاطع لتصريحات مسؤولين سابقين مناوئة للحكومة، ولصراخ جنودهم وبكائهم، بالإضافة إلى نشر اغتيالاتهم لصحفييهم وصحفيي العالم الذين أظهروا بعض الحقائق كأعداد القتلى، إلى تصريحات بعض عناصر الجيش المصابة وبعضها التي تلبّسها مس من جنون. كما ظهر الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم من غزة وهم يشيدون بالمعاملة الحسنة التي تلقوها من ساجنيهم، كل هذا وغيره يمثل ضغطا على الحكومة بالإضافة إلى انتشار مشاهد القتلى الإسرائيليين وتدمير فخر الصناعة الإسرائيلية "دبابة الميركافا" التي تتهافت الدول لشرائها بقذيفة صنعها المقاومون محليا.

أي خزي لحق بجيش الاحتلال، وأي هُزال؟ أما الحقيقة فإن الآلة الإعلامية جعلت منه جيشا ورقيا أكثر منه ميدانيا؛ تلك الآلة التي صورته سابقا كأقوى الجيوش في المنطقة تذمه الآن وتستصغره، لم يظهر منه سوى قسوة القلب على الآمنين غير المقاتلين، ويتفاخر جنده بإنجازات هي في الحقيقة خزي وحقارة وهوان.

جيش الاحتلال غير قادر على القيام بواجباته دون الاستعانة بآخرين ممن تعهدوا ببقائه ورعايته، هؤلاء يدفعون الآن ثمنا باهظا، كما أظهر الزيف الذي ينادون به من حقوق إنسان إلى مناصرة الضعيف، والظروف السياسية وما يحيط بنا من أشكال الانكشاف والبروز وسقوط الأقنعة وبعض السلوكيات المجتمعية في الغرب خصوصا، تُبقي على الحتمية التاريخية برجوع الحق لأصحابه مهما طال الزمان.

تعليق عبر الفيس بوك