المقاطعة.. سلاح الحرب لصنع السلام

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

للحروب تكلفة اقتصادية عالية على الدول المتأثرة بها، والتي تؤثر على اقتصادياتها بشكل مباشر وقوي وتخرج الدول من الحروب بخسائر اقتصادية كبيرة حتى وإن كانت منتصرة عسكرياً، وفي المقابل تعد الحروب فرصة اقتصادية كبيرة لدى الدول الأخرى التي لم تشارك في الحرب، فكما يقال (للأزمات فوائد)، ورغم قناعتي التامة بلا إنسانية المبدأ الميكافيللي "الغاية تبرر الوسيلة"، إلّا أن الحرب الدائرة في فلسطين وفي غزة بالتحديد يمكن الاستفادة منها بشكل إيجابي، ليس من الناحية الاقتصادية فحسب؛ بل حتى من ناحية القوة التي تمكننا كمسلمين وعرب من كسب معارك المستقبل القادمة.

وقبل أن يساء فهم العنوان والمقال، سوف أتطرق إلى مغزى المقدمة السابقة بشيء من التفصيل الذي يبين المقصد من هذا الطرح، فقد كانت حرب فلسطين- وما زلت- تنطلق من موقف القوي الذي يملك كل الأدوات، ليمارس الاضطهاد والتنكيل بالشعوب العربية ويشرد أبناء فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والأردن عبر تاريخ الصراع العربي الإسرلئيلي منذ التغريبة الأولى إلى هذا اليوم، أن القوة التي أمتلكها الكيان الصهيوني عبر الزمن كانت المال والاقتصاد، ومنها أستطاع أن ينمو ويكبر لدرجة أصبح يدير القوى العالمية الكبرى، ويتحكم في قرارات المنظمات الدولية ويسير العالم بأكمله لتحقيق أهدافه.

هذه القوة لم تأت من فراغ، ولم تتشكل بين عشية وضحاها؛ بل إنها جاءت بعد تخطيط ودراسة معمقة، واستغلال مستمر للأزمات التي مرت على العالم عبر التاريخ، بل يكاد أن يكون الصهاينة هم سبب مباشر لأفتعال أزمات معينة عبر التاريخ، لتحقيق مكاسبهم المالية والاقتصادية، وهكذا بُنيَ هذا الكيان إلى أن أصبح اليهود هم من يملكون رؤوس الأموال في العالم، ويتحكمون بكل تفاصيل الاقتصاد العالمي، وأصبح القرار السياسي مرتبطاً كلياً بما يرغب به هذا الكيان أو التجمع العرقي، ونشأ ما يعرف بالمجلس العالمي، وظهر مصطلح الدولة العميقة، وغيرها من المصطلحات السياسية التي تنطلق من مبدأ أن المال هو من يحكم، ومن يملكه يستطيع التحكم في القرار.

لقد جاءت هذه الحرب على غزة على غير رغبة من جميع المسلمين والعرب والعالم الإنساني، الذي يكره العنف وينبذه ويمقت الظلم ويحاربه، ولكنه شر وقع وبلاء حل، ولابد من مواجهته، فجاءت المقاطعة الاقتصادية التي أثبت من خلالها العالم الشريف من شرقه إلى غربه التزامه بها، وتبين أنها السلاح الأقوى القادر على إيقاف آلة الحرب الغاشمة، والوقوف في وجه المعتدي المحتل ومن يدعمه من قوى الشر العالمية، ولكن السؤال المطروح والذي يجب أن يظهر في كل حين هو هل تنتهي المقاطعة بنهاية الحرب؟

هذه المقاطعة هي الفرصة التي خرجت بها هذه الحرب للعالم من أجل إنقاذه من سطوة المتحكمين بالاقتصاد العالمي الداعمين لقوى الشر وهذا الكيان الغاصب بالخصوص، والذي ظل لفترات طويلة من التاريخ يحكم العالم بهذا المنطق، ولنا في كثير من حوادث التاريخ عبر وعضة في كيفية إستغلال اليهودي لغيره، وهذه صورة نمطية لليهودي في الغرب فهو يمثل الاستغلال والجشع والطمع، لمن لا يعرف ذلك من عالمنا العربي.

والاستفادة من المقاطعة اقتصاديًا يجب أن يكون محور اهتمام الحكومات العربية والإسلامية، فهي فرصة لإنعاش اقتصاداتها، خاصة تلك الدول التي لم تكن على تماس مباشر مع فلسطين المحتلة، يجب أن تحل الشركات المحلية محل الشركات العالمية التي أسسها النظام الرأسمالي العالمي، وجعلها تسيطر على اقتصاديات الدول، لابد من وجود بدائل تجعل الشعوب قادرة على الاستمرار في الاستغناء عن منتجات هذه الشركات.

ومن خلال الفترة الماضية من الحرب، وضح أن الشركات الصينية والروسية وغيرها من الشركات بدأت في وضع البدائل وتصديرها لدول المقاطعة، وبالفعل فقد بدأت مؤشرات أرباح هذه الشركات تتصاعد بشكل كبير، وهذا أمر يعرفه الاقتصاديون بشكل جيد، ويدركون أن الفرص تولد مع الأزمات، وعلى ذلك فمن الأولى أن نستفيد نحن من هذه الأزمة وذلك من خلال توجيه اقتصادنا بشكل مباشر إلى محاولة إيجاد بدائل تساهم في حل أزمة وفرة المنتجات التي تم مقاطعتها، وفي الجانب الآخر المساهمة في حل العديد من المشكلات الناتجة عن ضعف الاقتصاد، والتحول من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج.

ما شاهدناه من تصميم وإصرار من كل الشعوب لمواصلة المقاطعة، وما تظهرة الأجيال المختلفة خاصة الأجيال الناشئة من ثبات على الاستمرار أمر ملفت للنظر، فبينما كنَّا لا نتصور أن هذه الأجيال سوف تستغني عن الوجبات السريعة والمشروبات القادمة من هذه الشركات، نرى أنها أصبحت أكثر تصميمًا وإصرارًا على عدم العودة إليها، ولكن ولكي يستمروا في هذا علينا أن نوفِّر لهم البديل المناسب ونزودهم بالثقافة الصحيحة التي تغرس فيهم السلوك الصحي في الغذاء، كما أن دعم المشاريع الوطنية أمر مُهم للقضاء على هيمنة هذه الشركات التي ظلت لفترة طويلة تأخذ أموالنا لتقتل إخواننا.

إن استثمار الحرب في غزة والاستفادة من المقاطعة في خلق اقتصاد قوي يمكننا كدول من الوقوف أمام الظلم والتصدي للمنظمات والدول الداعمة لقوى الاستعمار وتجار الحرب هو انتصار لفلسطين وشعبها، وهو أولى الخطوات لرفع الظلم الواقع عليهم، والذي تسبب في اغتصاب أرضهم وتشريدهم منذ 75 عامًا؛ بل هو بوابتنا لنقف أمام العالم كالنِّد، وقتها فقط سيستمع العالم لنا وينصت ويرضخ، عندما نتحدث معه باللغة التي يفهمها، وليس فقط بالمُطالبات والمظاهرات. والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك