البطلة "مُنى الجحفلي"

 

 

الطليعة الشحرية

في عالمنا أبطال لا يصرعون الفضائيين والوحوش لإنقاذ كوكب الأرض، ولا يملكون قوى خارقة كالتخفي أو مقذوفة نارية يطلقها بفرقعة أصبع فيردي أعداءه صرعى؛ ليتها كذلك فهي حتمًا أسرع وأسهل.

تسقط همومك ومشاكلك وتتضاءل وتضمحل، عند مقارعتها ما يجابه به غيرك، أفهم أنَّ بعض الأمور في حياتنا ذات جدوى وإن بدت غير ذلك فحتمية السلبيات والإيجابيات في كل شيء لا تقبل الجدلية؛ ولكن ذاك "الألم" الذي يكرهه الجميع، الشعور بأنك تُسحق ذاتياً وتبحث عن مُتكأ في كلمة "الحمد لله"؛ فالحمد لله على المكروه والألم والمرض.

عندما نلمس شيئًا ساخنًا، نسارع إلى وضع اليد تحت ماءٍ بارد لإيقاف الألم، فما هو حال من يرى من يُحب يُعارك المرض. صراعٌ ليس به شيءٌ من العدالة؛ فأنت تجابه المجهول مع كل إبرة ومصل متصل بالأوردة، هناك من يقف بصمت مبتسماً ومتأملاً ويضرع ويناجي ربه أن يخفف وطأة الألم، وهناك أبطال بأجسادهم الصغيرة يحاكون بقوة الصبر والإيمان أبطال من ورق صنعتهم هوليوود.

إنها "منى" الصغيرة " منى" البطلة العظيمة.

العظماء لا يُقاسون بأحجامهم.. منى سالم الجحفلي، الفنانة الصغيرة، وهكذا تعرفت عليها من خلال لوحاتها ورسماتها ذات اللمسة الإبداعية الفنية. أعادت بيّ الذاكرة إلى الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو، ومثل فريدا تستلقِ مُنى الجحفلي على سيريها في عناية الأطفال في مستشفى السلطان قابوس بصلالة تناظر السقف ووجه أبيها معظم الوقت، فهي تعاني من ضمور في العضلات وتحتاج لأجهزة لمواصلة رحلتها في الحياة، شُخصت بالمرض في عُمر الثالثة. تقلص العالم الرحب وحُشر في ثقب إبرة مع ظهور العلامات الأولى للضمور بارتخاء عضلات العنق ثم الظهر.

عندما يصاب المرء بالمرض وهو بالغ فذلك أهون وأخف، حصاد ذكريات الطفولة بشقاوتها قد اُختبرت بكل عفوية، أشبعت مخزون الوجدان للمرء؛ لكن حين تصارع المرض في سن الثالثة وتقلِّب البصر ولا تجد غير صفحة أسمنتية بيضاء؛ قد يثبط ذلك العزم ويثير تساؤلات صغيرة وعميقة، لما لا ألعب كغيري من الأطفال؟ لما ليس ليّ أصدقاء وزملاء صف ودراسة؟

لا أتكئ وحيدة..

لم تتكئ البطلة الصغيرة منى، على ظلال الوحدة ولا غروب شموس الأمل والاستسلام لألم اليأس، فبدعم من أسرتها مُتمثلةً في والدها سالم الجحفلي والطبيب المشرف على حالتها هاشم قطون، بزغت فكرة إلحاق منى بالتعليم. وتبدأ أولى الخطوات بالتواصل مع قسم التربية الخاصة بالمديرية العامة للتربية والتعليم في محافظ ظفار.

اتسعت دائرة الأصدقاء من سقف أبيض وأجهزة نابضة وأبٍ وعائلة داعمة، الى مُعلمة وأخصائيين من قسم التربية الخاصة: صفاء عبد الجليل وعلي جعبوب، وأصبحت لها مدرسة ومقعد، وإن كان لا يُستخدم اليوم، فسيُستخدم غدًا والأمل مقرون بالدعاء.

أبهجت الأقلام والورق والألوان قلب منى، وصارت تطلب أوراقًا لترسم، وأصبح الرسم متنفسَ شغفٍ، تنقل به تجربتها الخاصة وعالمها الخاص. لوحات منى واقعية بها بهجة الطفولة وطموح المستقبل وأملُ الغد.

أصل الحياة ألمٌ..

يقول الدكتور مصطفى السباعي "لولا الألم لكان المرض راحة تُحبب الكسل، ولولا المرض لافترست الصحة أجمل نوازع الرحمة في الإنسان، ولولا الصحة لما قام الإنسان بواجب ولا بادر إلى مكرمة، ولولا الواجبات والمكرمات لما كان لوجود الإنسان في هذه الحياة معنى".

ماذا لو توسعت دائرة أصدقاء منى؟ ماذا لو أُقيم للوحاتها معرض ووضعت رسماتها جنبًا الى جنب مع فنانين تشكيليين آخرين في معرض الخريف؟  وماذا لو ....!

لن نُكثر من كلمة "لو"... بل نتمنى المبادرة، فلا معنى للحياة بلا إنسان لا يُحبِّذ فن المكرمات والواجبات.