د. خالد بن حمد بن سالم الغيلاني
حينما بدأت مواقع التواصل الاجتماعي، وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة في تناقل الخبر القادم من دوحة الخير في قطر المحبة، حيث اختار المجتمعون هناك صور العُمانية عاصمة للسياحة العربية لعام 2024، هذا الاختيار الذي انحاز بكل موضوعية لموقع جغرافي يفرض نفسه بقوة كبيرة مطل على بحرين هما؛ بحر عُمان، وبحر العرب.
هنا صور؛ حيث تبدأ الشمس في نسج خيوطها على عالمنا العربي، فمن صور العمانية يبدأ نور الحياة ينشر دفئه، مُتنقلًا بين حواضرنا العربية في مشرق القطر الممتد وغربه، ومن صور تشرق شمس العروبة ناشرة جميل ضيائها في عالمنا العربي من الخليج إلى المحيط، ومن صور تأتي بواكير السعي وطلب الرزق، والانطلاق نحو حياة مليئة بالبذل والعطاء.
انحاز هذا الاختيار الموفق بامتياز إلى حضارة ضاربة في عمق التاريخ منذ آلاف السنين، وبحسب ما ذكره د. حمد الغيلاني في كتابه تاريخ مدينة صور العمانية القديم " لقد تم اكتشاف أول موقع في عمان من العصر الحجري في عام 1998م، في صور بوادي الفليج، ويعود إلى عصر البليستوسين الأوسط (780,000- 130,000) سنة مضت، كما تم اكتشاف أقدم موقع أثري في الولاية وهو موقع رأس الجنز (RJ- 37)، ويقع على قمة ربوة بين صخرتين ويحوي مواقد للنار وطبقات ورصفات حجرية شبه دائرية ربما كانت أساسا لكوخ، كما اكتُشف موقع آخر للصيد في سهول جنوب الشرقية في موقع رأس الجنز به حجارة مخروطية محزوزة يربط بالواحد منها حبل حول الوسط، وهو مؤشر على صيد الحيوانات بأحجام مختلفة إلى جانب موقع رأس الحد (HD- 6)، وهذه المواقع تعود للألف السادس قبل الميلاد"، فهذا تاريخ قل نظيره، وحضارة ندر مثيلها.
انحاز هذا الاختيار إلى أمجاد عظيمة، وإرث يعد مفخرة من مفاخر الزمان، وأشرعة مجد طافت الدنيا حاملة رايات العز والسؤدد، رافعة بنود العلياء، عبر سفن الخير التي كانت تجوب البحار والمحيطات لتنبئ العالم كله وتحدث عن مجدنا وحضارتنا وعزتنا وتاريخنا وسمونا وأخلاقنا وثقافتنا وعلمنا وفنوننا.
انحاز هذا الاختيار إلى تلك الشواطئ التي مع انكسار موجها تكسرت أيادي البغاة العداة، وتحطمت طموحات الغزاة، إذ ما انبرى غاصب غاشم حتى انبرت له فوارس كالصواعق، ورجال كالشهب لا يخشون في سبيل العزة والأنفة وعلو الهامة والهمة أحدا، إلى تلك الجبال الراسيات الشامخات، وتلك الأودية الرقراقة المنسابة ماءً عذًبا زلالًا، إلى تلك الحصون والقلاع والأبراج المنتشرة هنا وهناك في كل ربوع صور حواضر وقرى، سهولًا وجبالًا.
انحاز هذا الاختيار إلى خور البطح الذي على عتباته سطّر الأفذاذ صفحات من البذل والعطاء، دونت بمداد الزمان، ونقشت بأحرف من نور المخلصين المجتهدين، إلى رأس الحد حيث مشرق الشمس الأول على بلاد العرب أوطاني، هناك تأوي السلاحف آمنة مُطمئنة، إلى رأس الجنز والتاريخ ينقش على الأحجار والأصداف نقوشه ويحكي عن أممٍ مرّت من هنا، وأسَّست لها حضارة هنا، وبنت لها مجدًا هنا، إلى طيوي بجبالها وشموخها وعذب مياهها، إلى صور بحواريها وقراها، وعبق التاريخ بين جنبات بيوتها، إلى سكة البوش والجمال حاملة أرزاق البلاد والعباد بين غدوة وروحة من الفرضة إلى السوق، إلى وشار السفن وأصوات المطارق تعزف لحنًا عبقرياً يشنف الأذان، إلى نوخذا متمنطق خنجره، متشحاً سباعيته، يضرب الأرض بعصاه فتخر له مطيعة مستجيبة، ما أن يشارف الرشة والصط حتى تبادله الغنجة ودا بود، وأمرا نافذا منه بالسمع والطاعة منها، إلى كل وستاد ومقدمي وبحّار، إلى كل رزحة وميدان، وشوباني، وبن عبادي، إلى نهمة البحار، ورفع الشراع العود، إلى كل فرحة بعودة سفن الخير إلى مراسيها في صور، عائدون منصورون فرحون مستبشرون، فتخرج صور مستقبلة مهنئة، مرحباً بعودة الأهل والأحباب.
انحاز هذا الاختيار إلى طفل يزهو بتلاحقيه، وطفلة تباهي بكمتها، وشادر طرح تكفكفت فيه امرأة جللها الوقار، وحضرها الحياء بكل تفاصيله، ودشداشة صورية طرزتها يد أم مُحبة، وزوجة مُجِلة ينتظرن العائد من سفره ليزهو بها، وإلى بنجري وعوص ومرية وحيول وشمروخ ومشل.
انحاز إلى حضورنا العماني في كل المحافل، ومكانة بلادنا بين الدول العربية الشقيقة، التي تكن لهذا الوطن المحبة والتقدير، وتحفظ له حضارته وتاريخه، وتسعد كل أمتنا العربية بزيارة وطننا الغالي، وعاصمة السياحة العربية فيه، فإن اختاروا صوراً؛ فذلك اختيار لكل الحواضر العمانية، وثقة مقدرة مشكورة أن تكون عمان كلها وصورها محط أنظار العرب، وقبلة زيارتهم، ومهوى أفئدتهم.
انحاز هذا الاختيار إلى حضور واضح في قيمنا، وثقافتنا، وإنجازات وطننا، وتوجهات عمان المستقبلية لتعزيز مختلف القطاعات غير النفطية، ومن ضمنها القطاع السياحي الذي يمثل رافدا مهما جدا من روافد الاقتصاد التي يعتمد عليها في تنويع مصادر الدخل، وتعظيم القيمة المضافة من هذ القطاع، باعتباره قطاعا واعدا جدا، وينمو بشكل مطرد، وفقا للخطط الاستراتيجية الوطنية المتعلقة بالسياحة والاستثمار فيها، ويعد اختيار صور عاصمة للسياحة العربية هدفا استراتيجيا مهما لتعزيز دور القطاع السياحي، وإظهار ما تتميز به بلادنا بشكل عام وصور بشكل خاص من مقومات تعزز هذا القطاع، وتزيد من إيراداته تحقيقاً للأهداف الوطنية السامية.
إنَّ اختيار صور عاصمة للسياحة العربية جاء نتيجة جهود بذلها القائمون على القطاع السياحي من خلال وزارة التراث والسياحة، وبذلتها المحافظة من خلال مكتب المحافظ، وبطبيعة الحال جاء نتيجة تخطيط وسعي وبذل وتنسيق ومتابعة واستشراف. وفي هذا المقام؛ فالواجب يقتضي الثناء والتقدير لهذه الجهود، التي من المؤكد أنها كانت شاقة ومضنية، وتطلبت تواصلًا وشرحًا وتحليلا للوصول إلى اعتماد صور العُمانية عاصمة للسياحة العربية، وتلك مرحلة مقدرة مشكورة.
أما الآن، فالأمر بحاجة ماسة إلى تضافر الجهود كل من موقعه، وبشكل تكاملي، ولتحقيق أهداف هذا الاختيار سواء كانت أهدافا مرحلية مباشرة، أو أهدافا استراتيجية لها صفة الاستدامة والبقاء، فليس الهدف عاما واحدا؛ وإنما أن تبقى صور وغيرها من الحواضر قبلة مقصودة طوال العام والأعوام، وأن تكون الفعاليات والبرامج ذات بعد حضاري وثقافي وترفيهي وسياحي واقتصادي، أخذة في الحسبان ربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل في قوالب من التكنولوجيا والحداثة، الأمر الذي يساعد على تحقيق الأهداف بأقل جهد ممكن، وبجودة عالية، وحضور يؤكد القدرة العمانية على التنظيم والريادة، والثقة كل الثقة في القائمين على هذا العمل الوطني الكبير.
مرحبًا بالجميع في عُمان المحبة والسلام، وفي صور عاصمة السياحة العريبة، مرحبًا بكم بعدد كل موجة عانقت رمال شواطيها، مرحبًا بكم بعدد ما داعب الصوري حواريها، وما هبت الكوس تنثر عودًا في ضواحيها، وما أظهرت فتح الخير تاريخًا مرصّعًا من نسج أهاليها، مرحبًا بكم تتسع لكم الأحداق والمقل، وتضمكم القلوب قبل الدار، مرحبًا بكم في صور العفيّة.