2024.. التنفيذ من "المسافة صفر"

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

نَمَا الاقتصاد العُماني على الصعيد الكُلِّي بوتيرةٍ مُتسارعةٍ خلال السنوات القليلة المُنصرمة؛ مدفوعًا بزيادة الإيرادات النفطية، وحوْكَمة إدارة الموارد المُتاحة وتسخيرها للتعامل مع أزمات مُركّبة ومترابطة، تولّدت جراء جائحة كورونا "كوفيد-19"، بجانب الانخفاض الكبير في أسعار النفط، وارتفاع الدَيْن العام إلى مستويات قياسية، وما نتج عنه من تدنِّي التصنيف الائتماني.

بينما تُشير الإحصاءات الحالية إلى أنَّ الاقتصاد العُماني يواصل النمو مع انخفاض الدين العام ورفع كفاءة الإنفاق؛ ففي عام 2022، وعلى مستوى الحسابات القومية، صعد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في السلطنة- كمًّا ونوعًا- بنسبة 4.3%، وزادت مساهمة القطاعات غير النفطية بمعدلات ملحوظة. وعلى مستوى المالية العامة؛ فقد أدّت السياسات المالية والنقدية الحصيفة والعائدات المُتنامية، إلى تحسين الوضع المالي؛ حيث حقَّقت الميزانية العامة للدولة فائضًا، بالتوازي مع إنشاء لجنة الدين العام بهدف تجنُّب أي أوضاع غير مؤاتية، فضلًا عن توفير أرضية مُطمْئِنة للمستثمرين.

أمّا على صعيد ميزان المدفوعات، فشهد الحساب الجاري تطوُّرات إيجابية لافتة؛ مما أدى إلى تعزيز وضع القطاع الخارجي وتحقيق فائضٍ، كما نجحت الحكومة في خفض الدين العام بنسبة كبيرة. وفيما يتعلق بالتضخم- وهو في معظمه تضخم مستورد- فقد أسهمت السياسات المالية والنقدية للسلطنة في احتواء وخفض معدلات ارتفاع التضخم في السلطنة. وأفضى كل ذلك إلى تحسُّن بيئة الأعمال، ومن ثمَّ تحسُّن تدفقات الاستثمار الأجنبي المُباشر.

وعلى الصعيد الاجتماعي، أطلقت الحكومة منظومة الحماية الاجتماعية لضمان الحياة الكريمة لجميع المواطنين وحماية الفئات ذات الدخل المحدود. وفي مجال التعليم، بدأ تطبيق نظام التعليم المهني والتقني، وزيادة الاهتمام بالتدريب والتأهيل.

أما على المستوى التنظيمي، فقد أحرزنا تقدمًا بدءًا من إطلاق رؤية "عُمان 2040"، وبدء تنفيذ خطة التنمية الخمسية العاشرة، إلى جانب تنفيذ العديد من البرامج الوطنية، وإزاحة الستار عن "مدينة السلطان هيثم"- الصرح العمراني والتنموي الواعد- وصدور العديد من القوانين والتشريعات، وإقرار حزمة من السياسات، وإنجاز مجموعة من الاستراتيجيات الوطنية في مجالات الاستثمار والصناعة واللوجستيات والتعليم والصحة والحياد الكربوني وغيرها.

ويبقى بعد ذلك نجاحُنا في المرحلة المُقبلة مرهونًا بقدرتنا على تنفيذ كل هذه السياسات والاستراتيجيات والبرامج، من "المسافة صفر"؛ أي دون تأخير وفي أقرب وقت مُمكِن؛ فلا يخفى أن النمو الاقتصادي في السلطنة ما زال يرتكز بشكل رئيسي على زيادة عوامل الإنتاج (العمل ورأس المال)، وليس بفضل زيادة الإنتاجية. لذلك.. لا بُدَّ من تنفيذ سياسات حازمة تُعنى بتعزيز الإنتاجية وزيادة البحث والتطوير وزيادة المكون التكنولوجي. ويُمكن الاستشهاد بما ذكره صندوق النقد الدولي خلال زيارته إلى السلطنة؛ إذ أكد أنَّ الاقتصاد العُماني يمضي قُدمًا في طريق التعافي، ولكن ينبغي بذل جهود أكبر في مجال التنويع الاقتصادي ومواصلة الإصلاحات في القطاع المالي، غير أن الصندوق قال في موضع آخر إن "المشهد المستقبلي عُرضة لضبابية كبيرة؛ بما في ذلك تقلب أسعار النفط والاقتصاد العالمي والتطورات المالية".

وعلى الرغم من هذه النجاحات، والتي تعكسها المؤشرات الكُليّة، إلّا أنه على الصعيد الجُزئي للأفراد والشركات، من المحتمل أن تكون القراءة مختلفة؛ إذ لا يخفى حجم الضغوط التي يُعاني منها الأفراد في مجتمعنا العُماني، جراء ندرة الوظائف، وانخفاض الدخول، وضعف القوة الشرائية، وعدم القدرة على الادخار، وبدء تآكل الطبقة الوسطى، التي تُمثِّل الطبقة الأهم في أي اقتصاد يتطلع إلى النمو والازدهار.

وفي جانب الشركات، يُلاحظ انخفاضٌ في هوامش أرباح الشركات؛ بسبب انخفاض الطلب المحلي وعدم قدرتها على الوصول إلى الأسواق الإقليمية؛ لعدم امتلاكها لعناصر المنافسة الضرورية نظرًا لأسباب كثيرة ومتعددة، علاوة على افتقارها لثقافة التصدير واستراتيجيات التوسع الخارجي.

إلّا أنَّنا نرى أن عام 2024 سيكون عامًا مفصليًا لتحقيق تحوُّلات نوعية في الاقتصاد العُماني، والتي طالما تحدثنا عنها في خطط طرحناها- عبر هذه النافذة- تستهدفُ توسيع قواعد الإنتاج المحلي، وزيادة التصنيع والتصدير، وتوظيف المُفردات الوطنية في القطاعات المختلفة، من أجل زيادة قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل للمواطنين تعتمد على المهارة، وتوفِّر الدخول المرتفعة، وتضمن العيش الكريم، وتخفف من ضغوط الأعباء المعيشية. والمفتاح لتحقيق ذلك يكمُن في وجود قيادة اقتصادية قادرة على فك شفرة القطاع الخاص العُماني، وتحفيز رجال الأعمال في الولايات والمحافظات والقطاعات المختلفة؛ لأنهم فُرسان المرحلة المقبلة في ميادين الإنتاج والتصنيع، من خلال الدخول في شرَاكات عدة، وعلى الحكومة تسخير الأدوات والأُطر، وتجنُّب المُزاحمة في هذه الميادين.

لكن.. لو انطلقنا من الثوابت الأساسية للاقتصاد العُماني، والثابت الأساسي والدليل الاسترشادي لنا هنا يتمثل في رؤية الاقتصاد العُماني 2040، والتي تنادي بشكل واضح بإجراء تغيير هيكلي للاقتصاد، قوامه تعظيم الاستفادة مما تحقق من منجزات، والاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية المُتاحة، وزيادة الإنتاج المحلي والتصنيع والتصدير، وهذه كلها ميادين القطاع الخاص. ولذلك، سطَّرت الرؤية المستقبلية دورًا مُهمًا ورئيسيًا للقطاع الخاص.

ولو استعرضنا الإحصاءات الإقليمية، لوجدنا أنَّ مُساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد السعودي تبلغ نحو 40%، وتطمح المملكة لوصول هذه النسبة إلى 65% بحلول 2030. وفي الاقتصاد القطري تصل النسبة إلى 30%، وفي الاقتصاد الكويتي 20%، وفي سلطنة عُمان- وحسب دراسة أعدتها غرفة تجارة وصناعة عُمان- تصل النسبة إلى 55%؛ مُتضمِّنةً الشركات الحكومية، ومن المتوقع أن تتراوح نسبة مُساهمة جهاز الاستثمار العُماني بين 30% إلى 40%. وفي الحقيقة أن جهاز الاستثمار العُماني لاعبٌ مُهمٌ جدًا في اقتصادنا الوطني، ويملك بين يديه أدوات عديدة لفتح آفاق أوسع والأخذ بيد القطاع الخاص المحلي وتمكينه، وصولًا إلى تنويع الاقتصاد وبناء المزيد من قواعد الإنتاج والتصنيع والتصدير وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية وتوطين التكنولوجيا.

ويمكن القول إنَّه على الرغم من سلامة النهج المُتَّبع في الجهاز بشأن استحداث شركات يحتاجها الاقتصاد الوطني، ومن ثم التخارج منها، فقد يكون من الأنسب إشراك الشركات المحلية والأجنبية من البداية، وخلق وصناعة الفرص للقطاع الخاص عبر مفهوم الشراكة. ويُمكن الاستفادة في هذا السياق من تجربة المملكة العربية السعودية؛ حيث أطلقت برنامج "شريك" ضمن رؤية "المملكة 2030"، والذي حَمَلَ أهمية استراتيجية واقتصادية عالية؛ لضمان تعزيز قدرات الشركات المحلية ورفع إمكانياتها التنافسية على الصعيد الدولي، بما يسهم في خلق أثرٍ إيجابيٍ عالٍ عبر سلاسل القيمة بأكملها، ومن ثم إنتاج العديد من الفرص الاستثمارية الكبيرة لشريحة أكبر من الشركات في القطاع الخاص، وبالتالي تحقيق نقلات نوعية وأثر اقتصادي واستراتيجي يشمل العديد من القطاعات الاقتصادية.

وبعد رفع الجاهزية وترتيب العديد من الملفات، يتبقى العديد من الأولويات التي تحتاج إلى تنفيذ من "المسافة صفر"، ونظرًا لضيق المساحة، أكتفي بذكر واحدةٍ من الأولويات، والتي ينبع اختيارنا لها، ليس من باب التشكيك وإنمَّا حرصًا على استعراضها بموضوعية تامّة؛ إذ إنها تمثل عنصرًا مفصليًا لتقدمنا في الفترة المقبلة، وقد احتلت هذه الأولوية أهمية بالغة في محافظات عُمان من أقصاها لأقصاها، ألا وهي "أولوية الإدارة والقيادة الاقتصادية" بفلسفةٍ وفكرٍ جديدٍ، يعملُ على تجديد المفاهيم والقناعات من أجل صناعة المستقبل، ويضمن الانسجام والتنسيق المُحْكَم لإدارة زخم التحوُّلات بطريقة مُلائمة، ويُوجِدُ حلولًا ذات صبغة شمولية، على أن تكون هذه القيادة قادرة على إثارة اهتمام الآخرين وإطلاق طاقاتهم الكامنة وتوجيهها نحو الاقتصاد التنافسي والمتنوع، ولتكون بمثابة "المايسترو" الذي يُحدد الأولويات وإقرار السياسات العامة، وتطوير صناعات جديدة، وبناء شراكات استراتيجية محليًا وخارجيًا، وزيادة التقارب بين القطاعين العام والخاص، وهو أمرٌ لم يعد خيارًا؛ بل ضرورة مُلزِمة لضمان توحيد الجهود وحشد الهِمَم باتجاه بوصلة الاقتصاد العُماني، والتي- كما ذكرنا- يقود زمامها القطاع الخاص، والذي يطالب بالاستثمار في مشروعات البنية الأساسية لتجمُّعات اقتصادية صناعية في المحافظات والقطاعات المختلفة، وتعزيز تنافسيته من خلال مراجعةٍ موضوعيةٍ للتكاليف التشغيلية والبيروقراطية، وتفعيلٍ لدور غرفة تجارة وصناعة عُمان، وتوفير بيئةٍ مناسبة للنمو، كي يتمكن اقتصادنا من استحداث فرص عمل للمواطنين، وتنمية الاستثمارات، واغتنام الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها السلطنة.

لا ريب أنَّ هناك العديد من البدائل المُستقاة من أفضل المُمارسات الدولية لنماذج الإدارة والقيادة الاقتصادية، وجميعها تشترك في ضرورة إعادة هندسة العمليات بطريقة تتناسب مع تعاظم التحديات وتجدُّد الأولويات، وتستند على مراكز أبحاث ودراسات قادرةٍ على استشراف المستقبل، وتقديم وصفةٍ جديدةٍ؛ لأنَّ المسارات القديمة لن تؤدي أبدًا إلى الوجهات الجديدة التي نطمح لها. ولن يكون مُجديًا البتة أن يظل أمر القيادة الاقتصادية مُشتّتًا بين الكيانات الحكومية بأكملها، أو للجنة متخصصة أعضاؤها مُثقَلُون بملفاتٍ ضخمة، لأننا عندئذٍ لن نعلم من سيتحمل المسؤولية عن أي تباطؤ أو تأخُّر في نمو الاقتصاد؟ ومن المسؤول عن اغتنام الفرص التي تُفرزها المُتغيِّرات المُتسارِعة محليًا وعالميًا؟ ومن المسؤول عن تسخير المزايا النسبية وتوظيف الموارد والمفردات الوطنية؟

وبكل وضوح.. الوقت لا ينتظر أحدًا، وعُمان تقع في القلب من تمركزات إقليمية قوية، بعضها بدأ تحقيق مكاسب في جوانب مُعيَّنة تجعل من الصعب علينا العودة إلى الوراء والمنافسة. ولذلك.. الإدارة الاقتصادية هي المعنية بعدم استقرار التوجُّه الاقتصادي والهُوية الاقتصادية وضعف تنفيذ الخطط والتوجهات الاقتصادية التي تحتاج إلى قيادة مُستقرة على المدى الطويل والمتوسط والقصير؛ الأمر الذي يؤدّي إلى استسلامنا للإشكالية الأزليّة المُتمثِلة في: غياب التفويض الواضح للصلاحيات لإجراء التغيير المنشود، إلى جانب ضعف التناغم والتنفيذ الفعلي للاستراتيجيات القطاعية، والارتهان إلى التبرير وتقاذف المسؤوليات!!

آخرُ الكلام.. كُلُنا يقين أن الأفكار والحلول مُتوَافِرة، لكن يظل العمل على وضعها موضع التنفيذ، فإمَّا أن نُدير أشرعة سفينتنا ونطوِّع الأحداث والمُتغيِّرات من أجل صناعة المستقبل الذي نريده، أو أن نتركها لرياح التغيير غير المُنظَّم والأحداث غير المحسوبة، تُحرِّك أشرعتها في اتجاهات مجهولة لا نعلمها ولسنا قادرين على استشراف نتائجها.