د. صالح الفهدي
استغرقَ إقناعُ رئيس الوحدة وقتًا طويلًا حتى اقتنع بعد إلْحاحٍ بأَن يفوِّض جزءًا من أعماله -التي ليست حتى من صميمِ صلاحياته- لمسؤولين آخرين في الوحدة بجهدٍ مُضنٍ قامَ به نائبه المقتنعِ بأهميَّة التفويض لتوقيعاتٍ، ومتابعاتٍ لا تستلزمُ اعتمادًا من رئيس الوحدة أو نائبه، لكنَّ الرئيس اشترطَ أن يكون التفويضَ لمدة عامين فقط، وبعدها ينظرُ في تمديدهِ أو إيقافه، فلمَّا انتهى العامان، رفض الرئيس تمديد التفويضات، بينما لم يسترجع نائبه التفويضات من مدراء العموم فقد رأى فيها تخلُّصًا من أعمالَ لا يفترض أن تنظر فيها الإِدارة العُليا، وإنَّما هي من مهام الإدارة الوسطى.
المسؤول الذي يفوِّضُ ما يراهُ عبئًا لا يرتبطُ بصميمِ وظيفته هو مسؤولٌ يعي جوهر السُّلطة ومهامِّها، كما أن التفويضَ يعني حرص المسؤول على وضع الثقة في الآخرين وهو ما يهدفُ إلى صنع صفوف ثانية في الوحدة التي يعمل بها في مختلف مستويات الإدارة، وهذا نجاحٌ صميميُّ للمسؤول، وأثرٌ حميدٌ من آثاره.
وصلتني ورقة موقعة من مدير عام، فنظرتُ إليها وقلتُ لمن سلَّمني الورقة: مثل هذه المهام لا يفترضُ أن يوقِّعها المدير العام؛ بل ولا المدير ولا رئيس القسم، وإنما أبسطُ موظف في الدائرة، فهي ورقة روتينية جدًا، كمثل عقود الإيجار التي لا توقيع فيها؛ بل مجرَّد ختم، وهذا يخلِّص المسؤولين في مختلف مستويات الإدارة من أعباءَ عمليَّةٍ ثقيلة، حيث يعودُ بعضهم برُزَمٍ من الأوراق إلى البيوت لتوقيعها، ومطالعتها ودراستها، وهذا أمرٌ غير صحيح إداريًا.
في إحدى السنوات قُلتُ لأحد الموظفين: اكتب صيغة محضر لجنة شؤون الموظفين، قال: في العادة يكتبُه المسودَّة المدير وأنا أنقلها!، سألته: هل أنتَ موظف إداري، أم طبَّاع يُملى عليه ما يكتبْ؟ قال: موظف إداري، قلت: إذن فأنا أطلبُ منك أن تنسى التوجيهات السابقة، وأفوِّضكَ بصياغة مسودة المحضر، وأنا أراجعه، فتكون العملية عكسيَّة.
إن التفويض يُلقي بالمسؤولية على الموظف أيًَّا كانت درجته ووظيفته، وهو ما يجعله حريصًا على أداء العمل بإتقانٍ ودقةٍ وأمانةٍ ولا يهم إن أخطأ في بدايته، فالثقة تُبنى بالتجارب، والتجارب تُبنى بتراكم المحاولات، ولا شيء يسمَّى فشلًا إنَّما كل فعلٍ هو تجربة بغضِّ النظر عن النتيجة.
وعَودًا على رئيس الوحدة الذي افتقد إلى التوقيع بعد عامين، وإلى الموافقات أو عدمها في بعض المواضيع، فإِن هذا النمط من الرؤساء هم مجرَّد موظفين إداريين لا يمكنهم أن يصلوا إلى صفةِ القيادة، لأن القائد يرسمُ الاتجاهات، ويحدد المسارات، ويضع الرؤى ثم يفوِّضُ من يراه مناسبًا من المنفِّذين، أو يصنع من يتوسَّمُ فيهم الصلاحية والقدرة والكفاءة للاضطلاع بالأهداف التي يأمل تحقيقها.
الذي أبطأ قضاء المصالح، وتخليص الإجراءات، هو عدم التفويض لمهامٍ وواجبات لا تستلزمُ أن تصلَ إلى وزيرٍ حتى ينظرَ فيها، فقد حدَّدت مسارها قوانين ولوائح وأنظمة، فالوزيرُ لديه- كما يفترض- من الأشغال ما لا يسمح له بالنظرِ في أمورٍ هي من واجب موظفٍ صغيرٍ في الوزارة، لهذا صدرَ مرسوم سلطاني رقم 17/ 2010 بإصدار قانون التفويض والحلول في الاختصاصات، لكنني لستُ على اطِّلاع على تطبيقه، لكنَّ صدور المرسوم يعني أنَّه جاء لحاجةٍ ماسَّةٍ إليه من أجل سيرورة العمل، ودفع الإنجاز نحو وتيرة أسرع.
أحد المسؤولين يقول: كنتُ أعودُ بملفَّات مليئة بالأوراق إلى بيتي كلَّ يوم، وكلَّها مهام يمكن التفويض بشأنها؛ إذ إنها ليست من الواجبات الكبيرة التي يُفترض أن ينظر لها مسؤولٌ في موقعي في الإدارة العُليا، فلَّما قمتُ بتفويض تلك الأعمال تخلَّصت من تلك الملفَّات المشحونة بالأوراق الروتينية، وتفرَّغت لأعمال مهمَّة هي من صميم وظيفتي التي عُيِّنتُ لأجلها.
المسؤول الحكيم هو الذي يعرفُ ماذا يفوِّضُ من صلاحيات، ومن الذي يفوِّض من مرؤوسيه، أمَّا الصنفُ المعاكسُ من المسؤولين فقد سلَّم بعض من فوَّضوهم الجملَ بما حمل، دون أن يتابعوهم في أدائهم، فانتهزوا تلك "الثقة العمياء" فيهم، وخانوا أمانة ما فوِّضوا به، وهو أمرٌ لا يمكن أن يتنصَّل منه من فوَّضهم، ولا يجب أن تستبعد مساءلته ومحاسبته.
لكن الأمر كما قال أحد المسؤولين أنَّه يفوِّض الصلاحيات والواجبات ولكنَّه يتلقَّى تقارير دوريَّة حول ذلك، ليكون على اطلاع واضح بالأداء، والإنجاز.
إنَّ الوزير في تفويضهِ للوكيل، والوكيل في تفويضه للمدير العام، وهذا الأخير في تفويضه للمدير ليخفِّف الاعمال المتراكمة على نفسه ويتفرَّغ لما هو جوهري من الأعمال، فإِذا وجدت مسؤولًا أو موظفًا ليس لديه من المهام إلّا أن يقوم مقام (المراسل) فيتلقَّى الموضوع من المرؤوس ليرفعه إلى الرئيس؛ فاعلم أنَّ جهة العمل تُعاني من إشكالية في طريقةِ إدارة بعضٍ من مسؤوليها المصابين بحُبِّ السُّلطة، وحبِّ التكويش عليها حتى وإن كانت على حساب واجباته الأهم، وصحته، ووقته، وجوانب أُخرى في حياته، أما إن رأيتَ جهة العمل وقد وزِّعت فيها الأعمال والواجبات بحسب الوظائف وطبيعة الأعمال؛ فأدرك أنها جهةٌ تعمل بموضوعية وواقعية، وتسيرُ عمليات الإنجاز فيها بسلاسة ويُسر.