أمريكا وإسرائيل.. خلاف استراتيجي أم تكتيكي؟!

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

بعد الزلزال الذي هزَّ إسرائيل في السابع من أكتوبر من هذا العام تقاطر حجيج الغرب إلى إسرائيل لمظاهرتها علانية، ودعمها دعمًا عمليًا مباشرًا، ليس فقط عن طريق مستودع من عبارات الشجب وخزان من عبارات الاستنكار ووابل من ألفاظ التنديد اللفظي.

أمريكا الراعي الأكبر والأول لإسرائيل، وبريطانيا سبب وجود إسرائيل وألمانيا ذات الموروث الهتلري النازي، المتهمة نازيتها بمحرقة "الهولوكوست" وفرنسا (ماكرون) الوجه المتعصب ضد الإسلام، جميع هؤلاء حجوا إلى هذه الدولة القائمة على نكبة 1948 ثم نكسة 1967، في ظل تأييد مطلق وإطلاق ليدها لتفعل ما تشاء في الشعب الفلسطيني.

الولايات المتحدة الأمريكية وهي التي خاضت حرب التحرير بشراسة، وأعملت القوة الضاربة، وأنشبت مخالبها في وجه الاستعمار البريطاني صارت أكبر داعم للاحتلال الإسرائيلي، وتجريد الشعب الفلسطيني من أرضه حتى غدت المنافي بعض مآويه، والملاجئ بعض أوطانه، وغزة بعض بعض مناطق نزوحه.

صاعقة السابع من أكتوبر جعلت قامات أمريكا لا يتوقفون عن إبداء التأييد لكل خطوة تخطوها إسرائيل ضد الفلسطينيين، الرئيس الأمريكي جو بايدن يطير إلى تل أبيب عاجلًا غير آجل، مُعلنًا منها عن دعم عملي غير محدود لها، فنشأ جسر من المدد بالعتاد والذخيرة الأمريكية إلى تل أبيب، ووزير خارجية أمريكا كرر الزيارة لتل أبيب لتدارس خطط الهجوم والقضاء على المقاومة في فلسطين. الرئيس بايدن يؤكد من قبل على أنَّه لو لم تكن إسرائيل موجودة لسعى إلى إيجادها ثم بعد السابع من أكتوبر أكد أنه "يهودي" ثم بعد مضي ما يقرب من سبعين يومًا على حرب إسرائيل على الفلسطينيين أكد الرئيس أنه "صهيوني"؟! وتلك مصطلحات دينية لو تلبس بها زعماء دول العالم الإسلامي مفاخرين بالإسلام لشنت عليهم دوائر الغرب هجوماً على أساس أنهم غير "متنورين" ولا "متحضرين". وقبل تأكيده على ذلك بأيام استخدمت أمريكا حق النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار وقف إطلاق النار.

الرئيس الأمريكي أكد أنه تأكّد من أن "حماس" قتلت أبرياء إسرائليين؟! وقبل ذلك أكد بأن المقاومة قتلت واغتصبت؟! ومع ما كان من عدوان إسرائيلي سافر أشبه بالأعمال النازية؛ بل محرقة هولوكوست الفلسطينيين في غزة إلا أن الرئيس قال إنه لا يمتلك دليلا على تعمد إسرائيل قتل المدنيين؟! وتلك مفارقة لا تليق برئيس دولة تعد نفسها بأنها حارسة قيم الحرية والعدالة والمساواة، وتصدر كل عام تقريرها عن الدول التي تنتهك حقوق الطفل والمرأة والإنسان! وتمتلك من أدوات التحقق والاستخبارات والرصد ما لا يمتلكه غيرها!

إزاء هذه المواقف من الرئيس وزير الخارجية ومستشار البيت الأبيض والكونجرس بجناحيه يبقى سؤال يتبادر إلى الذهن وهو هل هناك تباين إسرائيلي أمريكي؟ وهل من هوة تتسع بين بايدن ونتنياهو؟ خاصة بعد تصريح بايدن بما يفيد ضرورة إعادة تشكيل الحكومة الإسرائلية؟

عدد من المحللين والسياسيين والمراقبين والصحافيين استشفوا من ذلك بداية تغير البيت الأبيض على إسرائيل، وبداية ضغط من الرئيس الأمريكي على رئيس وزراء إسرائيل وذهب البعض إلى أن توترا يلوح في الأفق بين الشخصيتين!!

أمريكا وريثة بريطانيا في دعم إسرائيل، وهي بمثابة قاعدتها المتقدمة في الشرق الأوسط، وعصاها الغليظة التي تلوح بها في العالم الإسلامي؛ بل لو لم تكن بريطانيا أنشأت إسرائيل فإن أمريكا ستسعى لإنشائها، وفي سبيل بقاء إسرائيل الأولى قوة سياسية وعسكرية واستخباراتيا فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح ولن تسمح لأي دولة من دول العالم الإسلامي منافسة إسرائيل مكانتها أو التفوق عليها أو حتى مساواتها في القدرات التقنية والعسكرية.

علاقة أمريكا بإسرائيل "استراتيجية"، لا تتبدل بتبدل الرئاسات وساكن البيت الأبيض، ولا تتغير بتغير الحزب الحاكم جمهوري أو ديمقراطي.

هذا الثبات الراسخ في العلاقات ليس فقط وليد (اللوبي الصهيوني) في أمريكا، وليس ناتجًا عن جماعات الضغط اليهودي؛ بل هو عن قناعة لدى الزعامات الأمريكية، وكأن أمريكا لا تتنفس دون إسرائيل، وكأن إسرائيل لا بقاء لها دون أمريكا، وهو ما كشفت عنه أحداث السابع من أكتوبر، وما أسفر عنه من دعم مطلق أمريكي لعربدة إسرائيل، وانتهاكها حق الحياة وحق المرأة وحق الطفل وحق البيئة وحرية الصحافة وحرية الكلمة.

إن الخلاف بين أمريكا وإسرائيل هو خلاف "تكتيكي"، أي آني ومنسق، وليس أساسيًا؛ فأمريكا وهي على موعد مع صدور تقريرها السنوي حول حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، فهل سيصدر تقريرها هذه السنة لتقرر من يحترم حقوق الإنسان ومن ينتهكها خاصة في العالم الإسلامي؟ فوضعها محرج ومخجل أيضًا.

الولايات المتحدة الأمريكية في خوف من توسع نطاق الحرب فلم تعد قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل قائمة؛ بل توسعت رقعة الاشتباكات، وصار حزب الله يقصف لما بعد خمس كيلو مترات من الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وصار يستخدم أنواعا من الطائرات المسيرة، وأنواعا من الأسلحة.

وذلك يُنذر- إن طال أمد عدوان إسرائيل على غزة- بتوسع رقعة الاشتباكات واندلاع حرب بين لبنان وإسرائيل ما يعني بالضرورة انخراط أمريكا أيضا في هذه الحرب، وهذا يعني احتمال تدخل إيراني لنصرة هذه الجبهة؛ إذ لا يمكن أن تظل إيران مكتوفة اليدين وهي ترى حلفاءها في فلسطين ولبنان تشن عليهم إسرائيل الحرب وأمريكا تقوم بالتمويل والتسليح وتدخل الحرب من طرق أخرى.

باب المندب والبحر الأحمر تتصاعد فيه قوة أنصار الله اليمنية والقوات المسلحة اليمنية، والسفن المتجهة لإسرائيل يتم منعها من العبور ثم تطور الأمر بأن أعلن أنصار الله بأنهم سيستهدفون أي سفينة متجهة إلى إسرائيل مهما كانت جنسيتها ما لم يرفع الحصار عن غزة.

ولم تبق تلك تهديدات وإنما طبق أنصار الله ذلك عن طريق مهاجمتهم السفن المتجه إلى إسرائيل.

أمريكا إزاء هذا الوضع لا يُمكن أن تبقى متفرجة فذلك يحرجها؛ فهي إما أن تتدخل بذاتها وهو أمر لا ترغب في أن تتحمل مسؤوليته دون غيرها فإن فعلت زاد رصيد العداء الجماهيري لها في العالم الإسلامي، وهو الذي حذر منه سفراء أمريكا الذين يتابعون نقمة الشارع الإسلامي على بلادهم.

وإما أن تدعو أمريكا إلى تحالف لصد أنصار الله ووقف هجماتهم إلّا أن ذلك سيفاقم المشكلة؛ فاليمنيون ليسوا من النوع الذي سيستسلم أو يتراجع؛ بل يعني هذا أن لديهم المشروعية في تشكيل فرق انتحارية وضفادع بحرية تهاجم وتضرب كل سفينة من سفن التحالف التي أعلنت عن نفسها أو التي لم تعلن عن نفسها من الدول العربية.

احتمالية توسع الحرب هو ما تخشى منه أمريكا وفاتورة ارتفاع التأمين عبر البحار ستزداد وقد ترتفع أسعار النفط، وهذا ما لا يريده الرئيس بايدن وهو مقبل على الانتخابات.

إيران قد تدخل على خط المواجهة فهي لن ترضى بمهاجمة أنصار الله في اليمن، ولن ترضى نشأت تحالف ضدهم ما يعني إمكانية وقوع ما لا يحمد عقباه بينها وبين أمريكا وإن كان من غير إرادة من الطرفين.

الجبهة الآن هادئة بين أنصار الله وبين دول الإقليم واندلاع المواجهات بينهم وأمريكا أو بينهم وبين التحالف إن تشكل يعني اشتعال الجبهة الهادئة.

وأمريكا حاليًا تمكنت- وبفضل أساطيلها وتهديداتها المبطنة- من تحجيم توسع الحرب، فإن وقع المحذور فقد باءت مساعي أمريكا بالفشل.

البعض رأى أن تضارب تصريحات الرئيس الأمريكي تعود إلى ضغط الشارع المتظاهر بالملايين في مدن أمريكا، إلا أنني استبعد ذلك؛ فالغرب يتحاكم إلى مجالسه البرلمانية؛ فهي التي تمثل الشارع، ومن خلالها يطرح رأيه، فإن أجازت تلك المؤسسات الحرب فلا عبرة في الغرب برأي الشارع؛ فالعبرة برأي البرلمانات ودور الشعب ورأيه يتجلى من خلال من اختارهم ممثلين عنه، وليس من خلال الشارع وإلا لكان من العبث وجود المجالس المُنتخبة؟

بريطانيا شهدت مظاهرات حاشدة وضخمة معارضة للحرب على العراق، إلّا أن الحكومة لم تتراجع عن المشاركة فيها خلال الحرب على العراق وإسقاط نظام صدام حسين، وخرجت المظاهرات في العالم الغربي أيام الحرب على العراق، غير أن الدول الغربية لم تتراجع لأن البرلمانات لم تقم بمعارضة ذلك، وحاليا خرجت الملايين إلى الشوارع في لندن وغيرها من مدن المملكة المتحدة تندد بالحرب على غزة إلا أن الحكومة البريطانية لم تلتفت للشارع لأن ممثلي الشارع ونوابه صوت أكثرهم لصالح إسرائيل. فالشارع في الغرب من باب حرية التعبير أما المعتبر عند حكومات الغرب فهو تصويت ممثلي الشعب في البرلمانات، فلا صوت يعلو صوتها.

لو لم يكن الخلاف بين أمريكا وإسرائيل مجرد تكتيك لاتخذت الإدارة الأمريكية خطوات إنهاء العدوان على غزة ومن ذلك عدم استخدام حق النقض في مجلس الأمن، ووقف الجسر الجوي الداعم لإسرائيل تسليحا وذخيرة وما يسمى بالقنابل "الذكية"؟!

ولو كان الخلاف جديًّا لعمدت أمريكا على التحقق من حقيقة مذابح إسرائيل في غزة.