مدرين المكتومية
عندما خلق الله هذا الكون الفسيح، أوجد فيه العديد من الكائنات، ومن بينها الطيور، حتى إن العلماء يضعونها في تصنيف يسمى بـ"مملكة الطيور"؛ لما لها من أهمية كبيرة في حياة الإنسان على هذا الكوكب الأرضي، ولقد كان الطير المُعلم الأول لقابيل ابن آدم، عندما بعث الله غرابًا يبحث في الأرض، كي يُعلمه كيف يواري سوأة أخيه هابيل، بعدما قتله الأول حقدًا منه عليه، لأنَّ الله تقبّل من هابيل العمل الصالح بينما لم يتقبله من الآخر!
ولقد كانت جريمة قتل الأخ لأخيه الأولى في تاريخ البشرية، ولا ريب أنَّ ثمّة حكمة ربانية وراء تعليم ابن آدم لطريقة دفن الميت من طائر، ربما يظن البعض أنه لا حول له ولا قوة، غير أن الحقيقة الدامغة والتي أثبتتها المواقف والأحداث بل وعلوم الطبيعة، أن مملكة الطيور عالم آخر في هذا الملكوت الشاسع، ولقد أخبرنا الله تعالى أنهم وغيرهم من الكائنات "أمم أمثالكم"؛ أي أنَّ لديهم أفكار ومعتقدات وطقوس ولغة ومشاعر وأحساسيس، وإلّا كيف نجد هذا الطير أو ذاك يستقيظ في الصباح الباكر بحثًا عن الطعام لصغاره، أو يهُب لنجدتهم إذا ما وجد طائرًا مفترسًا يسعى للانقضاض عليهم؟!
وذات صباح قريب، عندما نهضت من فراشي ودلفت إلى نافذة غرفتي، لأتنسم عبير الصباح، وكان الوقت في حدود السادسة صباحًا، ولم يكن ضوء الصباح قد شاع في أرجاء الكون، كان الهدوء الجميل يُخيِّم على المكان، عدا أصوات زقزقة العصافير، وبعض النوارس التي تنتشر في هذا الوقت من العام وسط الأحياء، لا سيما القريبة من البحر والتي تقل فيها حركة الإنسان. وقد لفت انتباهي مشهدًا غاية في الغرابة؛ إذ رأيت عصفورين فيما يبدو أنهما يتحدثان لبعضهما البعض، وكأنَّ حوارًا مُحتدمًا كان يدور بينهما، ثم فجأة طار أحدهما وأخذ يجوب السماء فوق العصفور الآخر في حركة دائرية، بدت أنها استعراضية أو ما شابه، ثم ما لبث أن عاد إلى هذا العصفور، لكن في صمت غريب وسلام تام دون أي حديث، وكأن الشجار الذي دار بينهما لم يحدث، وكأنَّ حالة التشنج في الحوار لم تكن موجودة أصلاً! هكذا رأيت المشهد وهكذا فسرته!
ولذلك عندما أنظر إلى العالم من حولي، وأرى مشاهد الدمار والتخريب والقتل المُتعمّد للإنسان، والدماء التي تسيل في أرجاء هذا الكون، ولا سيما في غزة الجريحة، أتساءل لماذا لا نتحلى بصفات الطيور؟ ولماذا لا نتعلم الدرس الذي تعلمه قابيل من الغراب بأن نحرص على إخفاء عيوبنا وأن نتوقف عن ارتكاب الأخطاء من الأساس؟ لماذا لا يتحلى المرء بذات الطبيعة الطيبة وتلك النظرة الشمولية التي يتحلى بها الطائر. فأكثر ما يجذبني تجاه الطيور، قدرتها على التحليق عاليًا في حالة من السمو والهيبة، خاصة عندما تفتح جناحيها في مشهد مهيب يؤكد سيطرتها وهيمنتها على الأجواء في السماء، فضلًا عن قدرتها على رؤية الأرض من أعلى، وهذه النظرة العالية تُتيح لصاحبها أن يرى الحقائق دون تزييف، فهو في تلك اللحظة يملك رؤية تفوق الرؤية البانورامية الشاملة؛ إذ يستطيع أن يرى دقائق الأمور ومن ثم يتخذ القرار الصحيح والحاسم.
وعندما أُقارن ما يحدث بين بني البشر، ومشاهد الدمار التي ينفذها المتجبرون في الأرض، وبين مملكة الطيور بما فيها من تعايش كبير وسعادة وقدرة على التحليق واللهو والقفز في الهواء والهبوط إلى الأرض ثم الطيران مرة أخرى، اكتشف مدى الفارق الكبير بيننا وبينهم، ومدى حاجتنا لكي نتعلم من الطيور ما لم نتعلمه من تراكم الحضارات على مر القرون والأزمنة!
الإنسان على الأرض يشن الحروب ويقتل الناس وينشر الأمراض، من أجل تحقيق مصالحه، بينما الطيور تحاول أن تتعايش مع بعضها البعض، نعم هناك طيور مفترسة وجارحة، لكنها لا تمثل سوى قلة قليلة من مملكة الطيور.
عندما أطالع يوميًا مشاهد القتل والإرهاب التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي بكل عنف ووحشية وبربرية بدعم أمريكي وغربي مفضوح ومُخزٍ في نفس الوقت، أتساءلُ: هل هذه نتاج ما وصلنا إليه من تحضُّر ورُقي بشري؟ ما الفارق بيننا وبين الشعوب البدائية وآكلي لحوم البشر؟ ولماذا يدعي هؤلاء القتلة أنهم أنقى الأجناس وأكثرهم تحضرًا، وفي حقيقة الأمر الحيوانات أرقى منهم وأجمل في تحضرهم وخشيتهم ونصرتهم لبعضهم البعض.
لقد آلمني بشدة مشهد الجرافات الإسرائيلية وهي تجرف خيام اللاجئين الفلسطينيين الذين فرُّوا من ويلات الحرب والقصف الهمجي، فكم كان مؤلمًا وقاسيًا أن نرى الجرافات تسحب معها كل شيء، أطفال ونساء ورجال، وكأن الإنسانية تُدهس بالأقدام الهمجية الوقحة، ولا عزاء لقوانين حقوق الإنسان ولا لأي قانون.. فمتى يصبح الإنسان إنسانًا حقيقيًا، لا حيوانًا في صورة مسخ إنسان، متى تستيقظ الضمائر لتقول لا بأعلى صوت في وجه القاتل المجرم الإسرائيلي؟!