أمير العفو.. إلى رحمة الله

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

"إننا لن ندخر وسعًا وجهدًا في سبيل حماية مقدرات ومكتسبات وطننا الحبيب، ولن نتوانى في اتخاذ أي قرار يضمن للبلاد أمنها واستقرارها، في ظل نهجنا الديمقراطي الأصيل ودستورنا القويم وعاداتنا وأعرافنا العريقة. واعلموا أن الكويت والكويتيين أمانة في أعناق قيادتها السياسية" نواف الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله.

********

في الثلاثين من سبتمبر من العام 2020، تولى الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح مسند الإمارة في دولة الكويت، بعدما كان وليًا للعهد في فترة حكم الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح؛ حيث تمت مبايعته وليًا للعهد في 20 من فبراير من عام 2006، بعدما صدر مرسوم أميري بتعيينه في 6 من فبراير عام 2006.

وفي يوم السبت الموافق السادس عشر من ديسمبر من عام ألفين وثلاثة وعشرين ميلادية، انتقل الشيخ نواف إلى رحمة الله، مُخلِّدًا ذكرى حسنة وأثرًا طيبًا ملؤه التواضع والرحمة والعمل الإصلاحي ومكافحة الفساد، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وأسكنه فسيح جناته.

وفي نفس اليوم وبعد وقت قصير من إعلان وفاة الأمير نواف الأحمد، عقد مجلس الوزراء الكويتي اجتماعًا طارئًا، ونادى الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح أميرًا على دولة الكويت، وإعلان تعطيل الوزارات والقطاع العام والخاص لمدة ثلاثة أيام، وإعلان الحداد الرسمي في البلاد لفترة أربعين يومًا.

حفظ الله حضرة صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد ووفقه لما فيه خير للبلاد والعباد.

والشيخ نواف الأحمد- رحمه الله- من مواليد 25 يونيو 1937، ونشأ وترعرع في بيوت الحكم منذ ولادته، وتلقى تعليمه في مدارس الكويت، وفي 12 فبراير 1962. وتولى منصب محافظ حولي، وبعدها تولّى عدة وزارات منها الداخلية والدفاع والشؤون الاجتماعية والعمل، ثم في 16 أكتوبر 1994 تولى منصب نائب رئيس الحرس الوطني بدرجة وزير، ثم عاد للحكومة؛ حيث تولى وزارة الداخلية من 13 يوليو 2003، حتى فبراير 2006. وكانت آخر مناصبه الوزارية منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية في 16 أكتوبر 2003.

تسلّم الشيخ نواف الأحمد الحكم في فترة دقيقة من تاريخ الكويت؛ حيث كانت أزمة "كوفيد-19" تشغل العالم بتفاصيلها، وبعد استلامه للإمارة، كانت واضحة نواياه لبدء صفحة سياسية داخلية جديدة، وطي ما مضى من أمور أدت لصدور أحكام قضائية بحق عدد من الشخصيات السياسية؛ حبث كان عدد من رموز المعارضة البرلمانية خارج البلاد، وقد أصدر سمو الأمير الراحل قرارات بالعفو والصفح عن الكثير منهم، وعادوا بالفعل إلى البلاد دون أية مساءلة أو شروط، أحرارًا في بلدهم وبين ذويهم. بعدها توالت قرارات العفو والصفح، حتى كانت آخر القرارات قبل أيام من وفاته رحمه الله.

ورغم فترة حكمة القصيرة كقياس تاريخي، فقد ترك أثرًا لا يُنسى، وتوالت مبادرات العفو في عهده، ويكاد الوضع قد وصل إلى عدم وجود سياسي واحد خارج البلاد بفضل مبادراته الطيبة، وبالطبع كانت محاولات الإصلاح السياسي الداخلي تسير جنبًا إلى جنب مع جهود مكافحة الفساد؛ حيث كُشفت أمور عديدة في هذا الصدد، ولم يُوضع غطاءً لأي متهم؛ بما فيهم أفراد من الأسرة الحاكمة الذين تقلدوا مناصب مُهمة سابقًا، ولأول مرة في تاريخ البلاد يُدان منتسبون لمرفق القضاء بتهمٍ مُتعددة؛ مما أعطى انطباعًا بأن المسطرة متساوية مع الجميع، ولا حصانة إلا للعمل الذي لا يحمل شبهات. ولا شك أن للعدالة قدرها المؤثر في استقرار أي بلد، ولها أثر بالغ في تحول التنمية وتطور البلاد، وحفظ الحقوق.

لا ريب أن الدنيا زائلة، وأن ابن آدم ليس مُخلدًا فيها، والشيخ نواف الأحمد من عينة الذين تركوا أثرًا وانطباعًا حسنًا، فقد كان مُحترمًا في تفاصيل حياته منذ المنصب الأول محافظًا لحولي، حتى تبوأ مسند الإمارة، يستحيل أن تجد أحدًا يتهمه في ذمته المالية، أو أنه استخدم صلاحياته للتعسف وفرض أمور تنطوي على ضرر بالمواطنين، لكنه كان لينَ الجانب متدينًا متواضعًا، وفي نفس الوقت كان عطوفًا مع أبنائه من الذين أصدرت بحقهم أحكامٌ قضائية، فأصدر لهم العفو تلو الآخر؛ ليعودوا لبلدهم ويساهموا في نهضته وبلا أي شرط أو قيد أو مساءلة.

يتذكره الكثير كرجل يُصلّي وسط الناس دائمًا في المسجد المجاوِر لمنزله، خاصةً صلاتي الفجر والجمعة؛ حيث يأتي بسيارته الخاصة وهي سيارة عادية جدًا وليست من السيارات الفخمة، رغم أنه يملك كل شيء من مال وجاهٍ وسلطة، لكنه- رحمه الله- طوّعها له ولم تُطوِّعه، فكانت الذكرى الجميلة لحاكم إحدى أغنى الدول في العالم متواضعًا بين شعبه الوفي.

إن نموذج الشيخ نواف تاريخيًا قلَّ نظيره، فلم تُبهرْهُ السُلطة، ولم يرفع ذاته بصولجان الحكم، لكنه رفع نفسه ورفعه الله بتواضعه وتديُّنه ورحمته لشعبه وصيانته للأمانة.

رحم الله الشيخ نواف، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، وحفظ الله سمو الأمير مشعل الأحمد ووفقه لقيادة الكويت للتطور والازدهار، آمنةً مُطمئنةً بقيادته رعاه الله.

قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 105).