عبد النبي العكري
من أهم تداعيات حرب الإبادة الصهيونية على الشعب الفلسطيني في غزَّة وفلسطين المحتلة والانحياز الأمريكي للكيان المحتل إلى حد كونه شريكًا في هذه الحرب هو انفجار التظاهرات الاحتجاجية في أهم الجامعات الأمريكية من هارفارد شرقًا حتى بيركلي غربًا، مُستعيدة الحركة الاحتجاجية ضد حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي.
لقد أحدثت هذه الاحتجاجات بما يتخللها من فضح الطبيعة العنصرية الإجرامية للكيان الصهيوني والشراكة اللاخلاقية للولايات المتحدة وطبيعة حرب الإبادة المشينة من ناحية ومناصرة الشعب الفلسطيني في مقاومته المشروعة لحرب الإبادة الصهيونية والتحالف الغربي بقيادة أمريكا من ناحية أخرى، نقطة تحول في مواقف النخب الأمريكية والجمهور الأمريكي، ليس فقط تجاه الموقف من الكيان الصهيوني بل تجاه اللوبي الصهيوني في أمريكا وطبيعة النظام الأمريكي القائم على الظلم في الداخل والعدوان في الخارج والتحالف مع قوى الشر وفي مقدمتها الكيان الصهيوني.
إنها مرحلة جديدة تطرح فيها النخب الطلابية في أهم الجامعات الأمريكية والتي يتخرج فيها الكوادر التي تمد مختلف المؤسسات الأمريكية في الدولة والقطاع الخاص والمجتمع والأكاديمية وغيرها رؤية جذرية للنظام الأمريكي القائم وضرورة مناهضته وطرح البديل الإنساني لذلك.
من هنا فقد أثارت هذه المظاهرات والاجتماعات والنقاشات الاحتجاجية في الجامعات الأمريكية قلق الدولة العميقة والمؤسسات التي تستند عليها الدولة الأمريكية والنظام الأمريكي بما في ذلك المسؤولين في الحكومة والكونجرس بمجلسه وقيادات الحزبين الديمقراطي والجمهوري وقادة الشركات الكبرى وأقطاب الإعلام (الميديا) وبالطبع القيادات الصهيونية المتنفده واللوبي المؤيد لإسرائيل وفي مقدمته منظمه "إيباك".
ومن لأهم ساحات هذا الصراع ماجري في الكونجرس الأمريكي من استجواب خطير من قبل لجنة التعليم والعمل في مجلس النواب والذي يسيطر عليه وعلى اللجنة الحزب الجمهوري، لروساء ثلاث من أهم الجامعات الأمريكية وهي جامعة هارفارد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا "إم.آي.تي" وجامعة بنسلفانيا في تعاملها مع الاحتجاجات الطلابية التي شهدتها هذه الجامعات وغيرها متلازمة مع الحرب الإسرائيلية الأمريكية على الشعب الفلسطيني (حرب غزَّة) منذ 7 أكتوبر 2023، والمستمرة حتى الان.
حظيت جلسة الاستماع من قبل لجنة التربية والعمل والتي ترأسها فرجينيا فوكس (من الحزب الجمهوري)، التي تحولت إلى استجواب في مبنى الكونجرس يوم الثلاثاء بتاريخ 5-12-2023 والذي قادته إيليزا ستونيك عضوة مجلس النواب (عن الحزب الجمهوري) والمعروفة بتأييدها لدونالد ترامب وإسرائيل، بتغطية إعلامية وسياسية هائلة شاركت فيها قيادات الطبقة السياسية والشركات الكبرى والإعلام والأكاديميا. هذا الاستجواب مثّل سابقة خطيرة في تاريخ أمريكا ونظامها السياسي؛ اذ إنه تدخل فاضح من قبل المؤسسة التشريعية في تسيير جامعات مرموقة يُفترض أنها مستقلة في ادارة شؤونها وتصرفها تجاه طلابها، وكان ذلك بمثابة تهديد خطير لحرية التعبير والتفكير في مراكز الأكاديمية المرموقة. وطغى في هذا الاستجواب ما اعتبر من شعارات رددها المحتجون أو لافتات مرفوعة تعتبر معادية للسامية ومنها عباره "الانتفاضة" أو "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، وهي دعوة لإزالة دولة إسرائيل وإبادة اليهود. وبالطبع هذه إسقاطات غير صحيحة ومفتعلة.
حضر للمناقشة والتي تحولت إلى استجواب كل من د. إيليزابث ماجيل رئيسة جامعة بنسلفانيا، ود. كلودين جي رئيسة جامعة هارفارد، ود. سالي كورنبروث رئيسة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا.
عرض رؤساء الجامعات الثلاث الخطوات التي اتخذتها جامعاتهم من إجراءات للتصدي لمعاداة السامية المتصاعدة في الجامعات منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزَّة، وكذلك معاداة الإسلام. هنا تدخلت ستيفنك بربط الهتافات بالانتفاضة التي تعني بالعربية الاحتجاجات السلمية للفلسطينيين مع دعوة مفترضة لإبادة اليهود، مؤكدة وهي تخاطبهم "أنتم تعرفون أن استخدام تعبير الانتفاضة في سياق الصراع العربي الإسرائيلي دعوة للمقاومة العنيفة المسلحة ضد دولة "إسرائيل" بما في ذلك العنف ضد المدنيين وإبادة اليهود". وعندما ووجهت بردهم أن تعبير الشعارات والتعبيرات لا تعد تحرشًا أو تحريضًا، إلّا إذا تحولت إلى سلوك عنيف، عادت ستيفنك إلى اثارة خطر إبادة اليهود.
ألحَّت ستيفنك على سؤال كل من رؤساء الجامعات الثلاثة عمّا إذا كانوا يعتبرون الدعوه لإبادة اليهود خطرًا ويتطلب إجراءات بحق الداعين لها من الطلبة من قبل ادارة الجامعة، وأن ردهم يجب أن يكون نعم أو لا، فيما اعتبر رؤساء الجامعات الثلاثه أن الشعارات التي تتردد في احتجاجات طلبة الجامعات هي في إطار حرية التعبير التي كفلها التعديل الأول للدستور الأمريكي. وقد تكررت المحاججة من قبل ستيفنك ورؤساء الجامعات الثلاثة.
وفي ضوء جلسه الاستجواب هذه قررت لجنة التعليم والعمل بمجلس النواب بعد يوميين، فتح تحقيق بحق الجامعات الثلاث فيما اعتبروه فشلها في التصدي لمعاداة السامية.
وما إن انتهت جلسه الاستجواب، حتى ثارت عاصفة ضد رؤساء الجامعات الثلاث على امتداد الولايات المتحدة تطالب بتجريم الهتافات التي يرددها الطلبة المحتجون وغيرهم المعارضة لحرب الإبادة "الإسرائيلية" ضد الشعب الفلسطيني والاحتلال لأرضه وسياسة الضم والفصل العنصري الإسرائيلية وتأييد حق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وبناء دولته، والمطالبه باستقاله رؤساء الحامعات الثلاث.
سارع أندرو بيتس المتحدث باسم البيت الأبيض إلى "استنكار ما اعتبر أنها دعوة لإبادة اليهود"، مُرددًا أطروحات ستيفنك المزعومة. وتبعته في ذلك العديد من القيادات اليهودية والسياسية من الحزبين الديمقراطي- ومنهم حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو- والجمهوري اليميني مرشح الرئاسة وحاكم فلوريدا رون دي سانتوس، والذي ينفذ حملة قمع ضد مؤسسات التعليم العليا في فلوريدا باعتبارها ليبرالية!
هنا تدخلت الشركات الكبرى والتي تمول الجامعات في أمريكا مهددة بقطع تمويل الجامعات التي تعتبرها لا تتصدى لمعاداة السامية؛ حيث قامت إحداها بسحب 100 مليون دولار من التمويل الموجهة لجامعة بنسلفانيا عقابًا لها. وطلب عدد من ممولي الجامعات أن ترسل لهم قوائم بالطلاب المشاركين في الاحتجاجات لحجب الدعم عنهم وعدم التعاقد معهم لتدريبهم وإمكانية تشغيلهم مستقبلًا!!
تزايدت الضغوط على رؤساء الجامعات الثلاث وخصوصًا د.ليز ماجيل رئيسة جامعة بنسلفانيا ودفعها إلى الاستقالة لتجنب إلحاق الضرر بجامعتها وسط حملة هوجاء. لكن ما جرى لها سيتكرر في جامعات أخرى. ومن المقرر أن يجري استجواب 8 جامعات أخرى أمام اللجنة والعدد في تزايد.
وفي ظل هذه الحملة، فقد اتخذت إجراءات ضد حرية التعبير وخصوصا في الجامعات بما فيها الجامعات الثلاث. فقد جرى منع عدد من المظاهرات المؤيدة لفلسطين.
وفي جامعة كولمبيا بنيويورك، جرى سحب الاعتراف بتنظيم طلابي فلسطيني وسحب البعثات من طلاب فلسطينيين لمشاركتهم في احتجاجات مناهضة لإسرائيل. هذا على سبيل المثال لا الحصر.
ما يجري من إجراءات قمعية في الجامعات الأمريكية يتم في ظل سياسات وتشريعات وإجراءات في مختلف نواحي الحياة لتطويع المجتمع ومؤسساته للدولة العميقة والرأسمالية المتوحشة والتيار الإنجيلي المسيحي اليميني المتحالف مع الحركة الصهيونية و"إسرائيل"، على حساب مصلحة الشعب الأمريكي وهامش الحريات والآليات الديمقرطية مع محدوديتها.
قبل أيام، وفي سابقة تاريخية، أقر مجلس النواب باغلبية ساحقه اعتبار مناهضة الصهيونية بمثابة مناهضة للسامية؛ مما يتوجب تجريمها، وبموافقة مجلس الشيوخ المتوقعة يصبح قانونًا فيدراليًا نافذًا.
إن صهينة الولايات المتحدة الأمريكية تجري بوتيرة متسارعة وهي عملية شاملة سترتد عواقبها على الشعب الأمريكي وبالطبع على شعب فلسطين الضحية الأولى، وعلى العرب ثانيًا، وعلى العالم بمن فيهم حلفاء أمريكا، والرابح الوحيد الكيان والحركه الصهيونية.