رسالة أسيرة

 

د. صالح الفهدي

قرأتُ بتأثِّرٍ شديدٍ رسالةً كتبتها إحدى الأسيرات الإسرائيليات لدى "كتائب القسام" قبل الإِفراجِ عنها، لما حملتهُ الرسالة من مضامين الرقي والإِنسانية لعناصر المقاومة الذين رافقوها طوال ما يقارب الخمسين يومًا من الأسر.

دحضت الرسالة كل أكاذيب الصهاينة ومناصريهم عن "بربرية" المقاومة، وعن قسوتهم، وهمجيتهم، وأظهرت رقي الإِنسان المسلم في تعامله مع الأسرى باعتبارهم بشرًا أولًا، ثم أنهم وقعوا في الأسر نتيجةً لغطرسةِ أنظمتهم السياسية والعسكرية المستبدّة.

بدأت الأسيرة رسالتها بالقول: "إلى الجنرالات الذين رافقوني في الأسابيع الأخيرة، يبدو أننا سنفترق غدا، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي إيمليا، كنتم لها مثل الأبوين دعوتموها لغرفتكم في كل فرصة أرادتها، هي تعترف بالشعور بأنكم كلكم أصدقاؤها ولستم مجرد أصدقاء، وإنما أحباب حقيقيون جيدون، شكرا شكرا شكرا على الساعات الكثيرة التي كنتم فيها كالمربية".

وواصلت الأسيرة المفرج عنها في رسالتها إلى عناصر المقاومة: "شكرًا لكونكم صبورين تجاهها وغمرتموها بالحلويات والفواكه وكل شيء موجود حتى لو لم يكن متاحًا. الأولاد لا يجب أن يكونوا في الأسر، لكن بفضلكم وبفضل أناس آخرين طيبين عرفناهم في الطريق، ابنتي اعتبرت نفسها ملِكة في غزة، وبشكل عام تعترف بالشعور بأنها مركز العالم".

وتابعت الأسيرة السابقة: "لم نقابل شخصًا في طريقنا الطويلة هذه من العناصر وحتى القيادات إلّا وتصرّف تجاهها برفق وحنان وحب، أنا للأبد سأكون أسيرة شكر، لأنها لم تخرج من هنا بصدمة نفسية للأبد، سأذكر لكم تصرفكم الطيب الذي مُنح هنا بالرغم من الوضع الصعب الذي كنتم تتعاملون معه بأنفسكم والخسائر الصعبة التي أصابتكم هنا في غزة".

واختتمت قائلة: "ليت لهذا العالم أن يقدّر لنا أن نكون أصدقاء طيبين حقًا، أتمنى لكم جميعًا الصحة والعافية، الصحة والحب لكم ولأبناء عائلاتكم.. شكرًا كثيرًا" (دنيال وإميليا).

وهنا يأتي السؤال المنطقي: ما الذي دفع أسيرةً إسرائيلية وقعت في يد المقاومة التي اقتادتها قسرًا من بيتها، في ظروف مرعبةٍ، عاشت خلالها لحظاتٍ تصوّرت فيها الموت المُحقَّق، ما الذي يدفعها لكتابةِ رسالةٍ تقطرُ امتنانًا وعرفانًا لإنسانية "غير طبيعية" كما تصفها؟!

وقبل أن نُجيب على هذا السؤال، فإِننا نؤكد على أن أسيرات سابقات لم يكتمن الشهادة الإيجابية التي تماثل شهادة هذه الأسيرة، فكانت تصريحاتهنّ وبالًا على إسرائيل لا يقل عن الرشقات الصاروخية التي تطلقها المقاومة عليها، وضربةً موجعةً لقادتها، وأذكر هنا تلك الأسيرة المسنّة التي أقاموا لها لقاءً إعلاميًا مباشرًا، فإذا بها تمتدحُ تعامل المقاومة وإنسانيتهم الرائعة، وتذمُّ الجيش الإسرائيلي وتتهمه بقتل بني جنسه، فصعق الساسة والعسكريون لهولِ ما سمعوه منها وكانوا يظنُّون خلاف ذلك!.

اما التعامل الإنساني الذي أظهره عناصر المقاومة بالأسرى فهو نهجٌ إسلامي أصيل، حيث لا يعتبرُ الشيوخ والنساء والأطفال والرهبان والفلاحون ضمن الأسرى، إذ يوجب الإسلام لهم معاملةً خاصة ما لم يكونوا عونًا في الحربِ على المسلمين، وبناءً على ذلك فإِن الإسلام يوجبُ تغليب الجانب الإنساني في التعامل مع هذه الفئات من الأسرى، رغم أن المقاومة تواجه عدوًا محتلًا غاشمًا لا يعرفُ الرحمة، يقتلُ آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، ويدمِّر البيوت على ساكنيها، ويحرق الأرض حرقًا بقنابله التي لا نظير لها في التاريخ الحربي، لكن كل ذلك لم يفقد المقاومة المسلمة عدلها، ورحمتها، امتثالًا لقول الحقِّ سبحانه وتعالى: "يا أيُّها الّذِين آمنُوا كُونُوا قوّامِين لِلّهِ شُهداء بِالْقِسْطِ ولا يجْرِمنّكُمْ شنآنُ قوْمٍ علىٰ ألّا تعْدِلُوا اعْدِلُوا هُو أقْربُ لِلتّقْوىٰ واتّقُوا اللّه إِنّ اللّه خبِيرٌ بِما تعْملُون" (المائدة: 8).

بل إِن الله يوصي نبيّه بالأسلوب الرفيع في الحديث مع الأسرى الذين أُسروا من المعركة التي شاركوا فيها لقتال المسلمين بقوله عزّ وجل: "يا أيُّها النّبِيُّ قُلْ لِمنْ فِي أيْدِيكُمْ مِن الْأسْرى إِنْ يعْلمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خيْرًا يُؤْتِكُمْ خيْرًا مِمّا أُخِذ مِنْكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ واللّهُ غفُورٌ رحِيمٌ" [الأنفال: 70].

ويمتدحُ سبحانه المسلمين بقوله: "ويُطْعِمُون الطّعام على حُبِّهِ مِسْكِينًا ويتِيمًا وأسِيرًا" (الإنسان: 8). ونبيُّنا الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام أوصى أصحابه بالأسرى قائلًا: "استوصوا بالأسارى خيرًا" وهذا ما حدث لأسرى معركة بدر؛ إذ كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يقدمونهم عليهم في الغداء، وتكرر الصورة الراقية نفسها عند المقاومة المسلمة في تعاملها مع الأسرى، فليس أدلّ على ذلك من هذه الرسالة والمقاطع المرئية والصور التي يودِّعُ فيها الأسرى آسريهم من المقاومة وداع الذي لا يريدُ المفارقة لما نعِم به من معاملة إنسانية قلّ نظيرها.

لقد ضربت المقاومة مثلًا عظيمًا في كيفية معاملة المسلمين لأسراهم، وحافظوا عليهم، وعالجوهم، واهتموا بصحتهم، وإطعامهم، في مقابلِ المعاملة القاسية اللاإنسانية للكيان المحتل الذي يعامل الفلسطينيين من الأطفال والنساء والرجال.

لكن "بضدّها تتمايز الأشياء" فقد رأى العالم رقي معاملة المقاومة المُسلمة، في شهادات الأسرى والأسيرات، وتلك الشهادة سلاحٌ مؤثر، وأداة آسرة، فالأسر ليس قيودًا وأغلالًا وإنما شعور أبدي بالإمتنان، عبّرت عنه صاحبة الرسالة بجملتها "سأكون للأبد أسيرة شكر".