◄ القيادات الفكرية تفتح العقول وتعمل على تجديد المفاهيم والقناعات لصناعة المستقبل
◄ حاجة ماسَّة لإيجاد مراكز بحثية وفكرية ترفد صناع القرار بالتحليلات المُعمَّقة
د. يوسف بن حمد البلوشي
يُمثِّلُ التطورُ الفكريُ للشعوبِ سرَ النجاحِ وأساسَ صناعة المُستقبل للأمم، ولا مناصَ من تغيير منهجيات التفكير والتحليل بتغيير المشكلات للوصول لحلول ذات صبغة شمولية، وخاصة ونحن نعيش في عالم سريع التغيُّر، تتنوع وتتعقد أزماته على كل الأصعدة.
وإن كانت الدول تعيش في نفس الزمان إلّا أنها تعيش في عصور فكرية مختلفة، وهذا ما يُفسِّر تقدم وازدهار بعض الأمم وسكون أمم أخرى. ولذلك نقول إن الحاجة لقيادات فكرية قادرة على إحداث التغيير المطلوب ووجود أوعية ومراكز تحتويهم وتُعظِّم الاستفادة من خبراتهم، أصبح أمرًا ضروريًا، إنْ أردنا أن نواكب التغيير ونكون في مصاف الدول المتقدمة.
القيادة عملية تهدف إلى إثارة اهتمام الآخرين وإطلاق طاقاتهم الكامنة وتوجيهها نحو الهدف المرغوب. وهناك العديد من أنواع القيادات يمكن تقسيمها بشكل عام الى ثلاثة أنواع؛ هي: القيادات المؤسسية، والقيادات الفكرية، والقيادات السياسية.
ولضيق المساحة، سنركز في حديثنا عن أهمية القيادات الفكرية، لدورها الفاعل في التأثير على القيادات المؤسسية، وكذلك السياسية.
القيادات الفكرية هي التي تفتح العقول وتعمل على تغيير المفاهيم والقناعات الراسخة القديمة باخرى تتوافق مع مرحلة جديدة، وتؤمِّن أدوات جديدة لصناعة مستقبل جديد. وهي كذلك من تنشر الوعي الكافي في المجتمعات وتغرس وتُعزِّز ثقافات معينة مثل: الاستثمار، والعمل الحر، وكذلك تدفع نحو مسارات جديدة لتفعيل أدوار القطاع الخاص والافراد في العملية التنموية، وبهذا تستطيع تقليل وكبح المقاومة لدى أفراد المجتمع ورجال الاعمال ضد إحداث التغيير.
بصفة عامة.. القيادة الفكرية هي المسؤولة عن صناعة الثقافة السائدة في المجتمع، من مواقف وسلوكيات وقناعات تتبناها غالبية أفراد المجتمع؛ وكذلك هوية هذا المجتمع وأبرز مؤشرات وممكنات توجهاته ومستقبله التنموي. ولتقريب الفكرة أتطرقُ الى مثالٍ في الجانب الاقتصادي، ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت سنغافورة بلدًا شحيح الموارد، لكن الحكومة السنغافورية استعانت بقيادات فكرية فذّة من بينهم "ألفين توفلر"، التي استطاعت التأثير وإقناع القيادة السياسية بأن استقطاب الاستثمار الأجنبي هو البديل الأنسب للنهوض بسنغافورة، مع ضرورة الأخذ بالأسباب التي تؤدي لاستقطاب لاعبين مهمين في قطاعات استراتيجية، وإدخال التعديلات الضرورية في السياسات والمُمَارسات ومنح حوافز للشركات العالمية الرائدة، في وقت كانت غالبية الدول ترى في الاستثمار الأجنبي أنه وجهة أخرى للاستعمار.
لكن في المقابل، تأصلت ثقافة تُقدِّر التعليم والابتكار؛ الأمر الذي ساهم في بناء قوة عاملة ذات مهارات عالية ومُتعلمة ومجهزة جيدًا للتكيُّف مع الصناعات والتقنيات الجديدة، كما نفَّذت الحكومة سياسات تشجع ريادة الأعمال والابتكار، مما ساهم في تطوير صناعات وشركات جديدة. وفعلًا انتهجت سنغافورة هذا المسار وارتقت سلم التنمية على عكس بعض الأمم التي كانت ترى في الاستثمار الأجنبي شرًا مُطلقًا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من المجتمعات تُعاني من شُحٍّ في إيجاد قيادات فكرية قادرة على تغيير السياسات والقناعات القديمة؛ بما يتناسب مع احتياجات العصر الجديد. لذلك نؤكد دائمًا أن القيادات الفكرية هي المعنية بصناعة الأفكار وبناء الأيديولوجيات وترسيخ الثقافات في المجتمعات، وإذا ما أرادنا تغيير أوضاع الاقتصاد، فعلينا العمل على تغيير الأفكار والسياسات التقليدية المرتبطة به، وإيجاد أفكار جديدة وتأطيرها بشكل مناسب؛ لتستطيع القيادات السياسية والمؤسسية الاستفادة منها، وإلّا سنظلُ ندورُ في ذات الدوائر في ظل أفكار قديمة بمُسمَّيات جديدة.
ومن بين الأفكار التي تبنتها الدول الصاعدة تمكين شركات القطاع الخاص وتركيز الحكومات على وضع الأطر المناسبة وتهيئة بيئة الأعمال. واحتاجت في سبيل ذلك إلى فكر جديد يؤمن بإفساح المجال لشركات القطاع الخاص؛ لتلعب الدور الأهم في النهوض بالاقتصاد، والإيمان بهذا التوجه يستوجب وجود قيادات فكرية تستطيعُ تغيير المفاهيم وإقناع القيادات المؤسسية والسياسية بالتوجهات الجديدة في مختلف الأصعدة، وهناك حاجة ملحة للانتقال من عصر الفكر القديم إلى عصر الفكر الجديد. فما كان مُحرَّمًا بالأمس، قد يصبح هو المرغوب في المرحلة المُقبلة.
ونؤكد مُجددًا أن تعزيز قدرات القطاع الخاص بحاجة لفكر جديد يؤمن بأدوات جديدة لتحريك الاقتصاد ونقله الى مستوى جديد، يعمل على إزالة الحواجز والتعامل مع المشاكل الحقيقية التي تواجه جميع عوامل الإنتاج، والتي تشمل رأس المال والقوى العاملة ومؤسسات الأعمال، وتعزيز القدرة الاستيعابية للاقتصاد. وفي نفس الوقت تغيير الفكر السائد حول محدودية كفاءة القطاع الخاص وثقافة ممارسة الأعمال التجارية وإيجاد ظروف مواتية لنهوضه.
ويرى الكثيرون أن الطريق نحو إحداث تغيير في الاقتصاد العُماني ينطلق من خلال تغيير الفكر والثقافة السائدة أولًا ويحتاج إلى الدفع باتجاه السلوكيات والسياسات المطلوبة.
وقبل الختام نقول إن عُمان تمُر بمرحلة مُثلى للتغيير والارتقاء بالنموذج التنموي القائم، والذي أدى دوره بنجاح في الحقبة المنصرمة، وبات التغيير حتميًا نحو نمط ونسق جديد يعمل على تعظيم الاستفادة من الجاهزية الكبيرة للبنية الأساسية والبشرية والموارد الطبيعية للسلطنة، والامر يحتاج الى فكر جديد؛ إذ إن السياسات القديمة لن تُفيد في تحقيق التحول المنشود، وهذا لن يتأتى دون تغيير للعديد من الثقافات والقناعات الراسخة والتي تحتاج الى قيادات فكرية فاعلة في المرحلة المقبلة.
ونُضيف أن إيجاد اوعية ومراكز بحثية لاحتضان أصحاب الفكر، أمرٌ غاية في الأهمية، فهذه المراكز تُساهم في فَهْمِ التفاعلات الإقليمية والدولية، وتستشرفُ المستقبل وتستقرئ تأثير التغيرات الجيوسياسية والجيواقتصادية المختلفة على الوضع المحلي، وترفد صناع القرار بتحليلات شاملة ومُعمَّقة حول القضايا المختلفة، وتقدم التوصيات للتعامل معها.
ولا يفوتنا أن نُذكِّر كذلك بالدور المهم للإعلام في الارتقاء وتوصيل الأفكار المرغوبة بأدوات وأساليب ذكية؛ فلا يُمكن تحقيق النجاح بسياسات وأفكار قديمة، وُجدت في وضع ومعطيات معينة، أن تنجح في وضع ومعطيات ومقاربات جديدة، خاصة ونحن نعيش في عالم سريع التغير تتنوع وتتعقد أزماته وتتجاوز المحلي إلى الاقليمي والعالمي، وكذلك تتجاوز الأصعدة الآقتصادية الى الاجتماعية والسياسية.
ونختمُ في هذا السياق باقتباسٍ مُنير من الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- في افتتاح مجلس عمان قبل أيام: "إننا إذْ ننظرُ إلى المؤسساتِ التعليميةِ، والمراكزِ البحثيةِ والمعرفيةِ بجميعِ مستوياتِها، على أنها أساسُ بنائِنا العلميِّ والمعرفيِّ، ومستندُ تقدِمِنا التقنيِّ والصِّناعي؛ لَنُؤَكِّدُ على استمرارِ نهجِنا الداعي إلى تمكينِ هذا القطاع".