إعلام النكسة.. وسقوط بغداد!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

"الحقيقة التي أراها واضحة وضوح الشمس هي أنه عندما ينتصر طرف من الأطراف في أي معركة؛ سواء كانت قتالًا حربيًا أو مباراة في كرة القدم؛ فالسبب يعود إلى أن هذا الطرف جمع من مقومات النصر ما جعله يصبح الطرف الأقوى". غازي عبدالرحمن القصيبي.

 

********

في يونيو من عام 1967، وعلى وقع أهازيج المذياع، وخطابات أحمد سعيد على إذاعة صوت العرب، ومقالات محمد حسنين هيكل العابرة للحدود، والأغاني الحماسية، كان العرب يظنون؛ بل متأكدون أن تحرير فلسطين ليس إلّا بضعًا من الساعات، وبأن أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر قد أصبحت شيئًا من الماضي، ثم حدث ما حدث وحصل ما حصل، من هزيمة مُوجعة، وانتكاسة تاريخية، توجت بالخطاب التلفزيوني الذي أعلن فيه عبد الناصر تنحيه وعودته إلى صفوف الجماهير، وبعده المظاهرات التي اكتظت بها شوارع الوطن العربي وليس مصر فقط لإثناء زعيم القومية العربية عن قراره، هذا الأمر الذي اعتبره عدد من المحللين بأنه "مسرحية" مرّت بسهولة على المُخلصين.

ثم مرَّت السنون، وحدثت حرب أكتوبر 1973، والتي صورها الكثير بأنها انتصار كبير، ولكن لأنَّ الأمور بخواتيمها، فكانت ثغرة الدفرسوار، والمساحات التي ظل الصهاينة يحتلونها في مصر، ولم ترجع إلّا بعد معاهدة كامب ديفيد على يد الرئيس الراحل أنور السادات، وبعدها وفي لبنان وما حصل بعد حادث عين الرمانة الذي فتح دروب الشر على مصراعيها من حرب أكلت الأخضر واليابس في لبنان الجميل، وكان وقتذاك كل فصيل أو حزب تعلن أجهزة إعلامه بأنَّه المنتصر وغيره المهزومين، بينما كثيرٌ من الحقائق كانت مناقضة، عندما كشفتها الاعترافات في السنين اللاحقة.

مضت الأعوام ومن تبعات حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي الغاشم، وبعد سنوات من تحريرها، قامت الولايات المتحدة مع حلفائها بعملية إسقاط نظام البعث العراقي بقيادة صدام حسين، وأثناء ذلك كان وزير الإعلام العراقي آنذاك محمد سعيد الصحاف، يعقد مؤتمرات صحفية تشبه مسرحيات الكوميديا التراجيدية، كانت الأحداث على أرض الواقع في شأن، وكلماته المدوية شأنها مختلف تمامًا، كان الأمر كالمُضحك المُبكي؛ إذ كان يُدلي بتصريحات لا تمت للواقع بصلة، إلى أن حدث ما حدث وانتهى كل شيء في التاسع من أبريل من 2003، وبعد ذلك بأسابيع شاهد الكثيرون الصحاف بذاته وبشحمه ولحمه في لقاء حصري على شاشة إحدى المحطات الفضائية الخليجية!

أهم شيء في الإعلام- أي إعلام- هو المصداقية، وفي دراسة التاريخ يحمل الأساتذة على عاتقهم مسؤولية إفهام الطلبة أن المعلومة شيء، والتحليل شيء آخر، خلط المعلومة بالتحليل كأنك تخلط الجد بالهزل، التلاعب بالمعلومة هو تحري وترصد للكذب، والكذب آفة وعيب!

صحيح أن بث الروح المعنوية مهم جدًا أثناء الوغى والحرب، لكن هذه حكاية، والكذب الممنهج البعيد عن الواقع حكاية أخرى مختلفة تمامًا!

تذكرت ما سبق وأنا أتابع الأحداث على الساحة، وسبحان الله ما زالت تلك الممارسات وما زال التلاعب في تيسير دفة الإعلام على نفس النفس الكاذب السابق، وكأن الناس قطيع لا يفهم ولا يدرك، إلى أن تنتهي الحكاية، ويفوق الناس من سكرة الانتصار المزعوم، ثم يبدأ إعلام الكذب بتمرير أعذار الهزيمة المتكررة تاريخيا على أمة كانت خير أمة أخرجت للناس!

أن تكون داعمًا ومشجعًا غير أن تنقل معلومات متلاعب بحيثياتها، وتجتزئ تفاصيلها، وتقدم المهزوم بصورة المنتصر، والعكس صحيح!

في إعلامنا العربي وحتى أكون دقيقًا في غالبيته، يجير الأمور مصلحة عامة هي في الحقيقة كذب وتلفيق، في الدول المحترمة لا يوجد شيء أسمه كذب ومصلحة عامة مزعومة، بل حقائق تقاس على أثرها القواعد المبنية لسياسات الدول وبشفافية تامة، ولايوجد في قاموس تلك الدول إذاعة تبث خطابات أحمد سعيد ولا حتى يونس بحري، ولا يمكن لأي دولة لها مصداقيتها أن نرى بها ما حدث إبان مؤتمرات وزير الإعلام البعثي، الواقعية والمصداقية في نقل الأحداث مهمة وتسمية الأمور بأسمائها أفضل من اللف والدوران، والكذب، وهي الحجر الأساسي للتنمية العامة للشعوب بدءا من بث الوعي الحقيقي وعرض ما يحدث بحقيقته، ومن كل زواياه، وليس بكذب وتفصيل الأخبار بحسب شعارات مؤدلجة أثبتت الأيام أنها لاتغني ولا تسمن من جوع!

لا شك الحقيقة أحيانًا مُرة، ومذاقها كالعلقم، لكن الوقوف على الحقائق والاعتراف بالواقع هو أول درس؛ بل وأول لبنة في البناء الصجيح، ولنتأكد أن الحقيقة إن لم تتضح اليوم فغدا لناظره قريب، والعنتريات الموجهة ستكون مجاورة لمسرحيات الكوميديا في خانة الأفلام المضحكة مستقبلًا!

يقول المولى عز وجل: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد:17).