ماذا بعد الطوفان؟

 

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

معركة "طوفان الأقصى" التاريخية أعادت للإنسان العربي كرامته، وأسقطت هيبة الاحتلال وجيشه الذي لا يقهر وكشفت ضعف منظومته الأمنية والتكنولوجية ونقلت الإستراتيجية النضالية الفلسطينية من حالة الدفاع للهجوم، وشكلت علامة فارقة في تاريخ الصراع، وفتحت الطريق أمام انتصارات استراتيجية مُقبلة.

هذه العملية تُشكِّل في حد ذاتها وبصرف النظر عن ارتداداتها وتبعاتها وانعكاساتها، نقلة نوعية جديدة؛ سواء من حيث التخطيط، أو من حيث التطور النوعي التسليحي، وستخلق حتما موازين قوى جديدة في الساحة الفلسطينية ومحيطها العربي والإقليمي، وقد تنضج خيارات داخل الكيان الصهيوني نفسه. لقد دخل النضال الوطني الفلسطيني منعطفا جديدا مفتوحا على الاحتمالات كلها، وإن كان من المبكر التنبؤ بتطور الأحداث وسياقها وتداعياتها بشكل دقيق. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا بعد الطوفان؟ وهل يمكن استشراف سيناريوهاته وآفاقه المقبلة؟ وماذا عن الطوفان السياسي الذي سيعصف بالكثير من المعادلات الداخلية والخارجية، ويخلق وقائع جديدة ميدانية وسياسية، وربما يغلب شكل التحالفات العربية والإقليمية الشعبية والرسمية رأسا على عقب؟

جولات الصراع العسكري حين تُترجم على طاولة المفاوضات والمساومات قد تفتح مسارات وخيارات غير ملموسة في المراحل السابقة، وفي الحالة الفلسطينية المحفوفة بالمخاطر من كافة الاتجاهات والحاضرة في الأروقة السياسية الإقليمية والدولية لجهة تصفيتها، وفي ظل موازين القوى القائمة قد تتطور نتائجها المباشرة إلى نوع آخر من الفرز السياسي على قواعد جديدة، وربما هذا السيناريو هو الأكثر وضوحًا حتى اللحظة الراهنة. وبقدر ما أربكت العملية البطولية المحتل الصهيوني وحلفاءه، بقدر ما أربكت الساحة الفلسطينية والعربية وحلفاءها، وما رشح إلى الآن من محور المقاومة بجميع مكوناته يوحي بالكثير من الغموض، ويبدو أنه تلقى نبأ العملية كما تلقاها غيره، وما زالت مواقف أطرافه قابلة للتأويل والتكييف والاستنتاج، وما إذا كان خفوت صوته وفعله يعد استجابة للتهديد الأمريكي أم مجرد خضوع لتقديرات وحسابات ذاتية؟ أم إن الموضوع أبعد وأعمق؛ الأمر الذي يفتح الباب للاجتهادات المتناقضة، ويثير علامة استفهام كبرى حول عنوانين كبيرين الأول: فيما يتعلق بأسس التحالف ومضمونه ونمط العلاقة الكفاحية ومرتكزاتها وكيفية استمرارها، والثاني: حول طبيعة العملية وتوقيتها وأهدافها وآثارها المستقبلية، وكيف ستوظف سياسيا وبأي اتجاه؟ وهو ما سيتضح في مجرى التطورات المقبلة.

ولتجنب كل هذه الهواجس والمخاوف والاحتمالات، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية التي وحدّها العدو في ميدان المعركة، وتستند إلى حاضنة شعبية قلَّ مثيلها في الصبر والعناد والصمود، أمام استحقاق تاريخي في حماية صمودها الأسطوري وتضحياتها العظيمة بتجسيد وحدتها الوطنية السياسية ووحدة أداتها الثورية التي تعد الخطوة العاجلة في مواجهة المخطط الجهنمي الذي يحاك للقضية الفلسطينية، وإن كانت القناعة راسخة بتبخر كل هذه المخططات والمشاريع على صخرة صمود الجماهير الفلسطينية والعربية.

الكيان الصهيوني، ورغم ما تعرض له من انتكاسة ميدانية ومعنوية وسياسية، ذهب سريعًا باتجاه تشكيل حكومة طوارئ في إطار توسيع دائرة القرار الاستراتيجي والاستفادة من كافة الطاقات والخبرات السياسية والعسكرية والأمنية، وتوزيع التبعات، في محاولة لاستعادة توازنه وهضم نتائج اللطمة الأولى، بعيدًا عمّا سيقدمه نتنياهو وحزبه من تنازلات وما قد يدخله من حسابات سياسية تحسبًا للقادم من الأيام.

وبما أن استراتيجية الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني أساسها ضرب فكرة العمل الجماعي قُطريًا وقوميًا وتفكيك الجبهات القائمة والمحتملة وفصل المسارات الداخلية والخارجية لحصد ثمارها في تضخم الأجندة الفئوية الضيقة، فإن إفشال مخططاتهما يستوجب الوقوف الجدي أمام ضرورة تصليب الجبهة الداخلية. ولا شك أن الطوفان السياسي المقبل بحاجة إلى شراكة في القرار تتويجًا لشراكة الدم والجوع والشهادة، وأن القوى الثورية المناضلة عندما تتلاحم في جبهة وطنية عريضة تستطيع المساهمة الفعلية في إدارة الصراع برؤية شمولية وحماية مشروعها الوطني بأبعاده التحررية التقدمية الشاملة الذي يحظى بتأييد واسع على الصعيدين العربي والعالمي، وعدم حصره في قالب محدد كما يرغب الأعداء، بحيث تتمكن من تفعيل طاقات الجماهير الفلسطينية والعربية بالعمل المنهجي المنظم وشق مجرى نضالي جديد يستطيع توفير شروط خاصة لمواصلة الحرب الثورية؛ فالصراع وجودي تاريخي طويل، ولن يحسم بضربة واحدة مهما كانت موجعة.

يبقى على من يواجه الكيان الصهيوني وحلفاءه أن يتسلح باستراتيجية طويلة المدى، أبعد من مجرد الاتكاء إلى حق مشروع، رغم عدالته، وما يوفر من دوافع وحوافز معنوية وكفاحية، وأن تجربة نصف قرن، أو يزيد يجب أن تكون حاضرة باستمرار والاستفادة منها قدر الإمكان في قراءة خارطة الصراع من كافة الجوانب، حتى لا يغيب ما هو جوهري تحت ركام الانفعالات العاطفية، والنضال العربي متهم على الدوام بتغليب العواطف على العقل والتكتيكي على الاستراتيجي.

وإذا كانت الجماهير العربية تعيش في هذه اللحظات الاستثنائية نشوة معنوية كبيرة هي مزيج من الفرح والألم والمرارة، سيبقى الرهان عليها في نقل قناعاتها وعواطفها إلى برامج عملية ترتقي إلى مستوى التحديات، وسيفرض عليها طغيان الحلف الاستعماري الإمبريالي الصهيوني العنصري الإرهابي الذي يهدف للسيطرة عليها من المحيط إلى الخليج ونهب ثرواتها وإذلالها، وهتك كرامتها واستباحة أرضها ومقدساتها، وقتل نسائها وفلذات أكبادها وطحن جماجمهم أمام مرأى ومسمع من العالم، استعادة حقها المسلوب بكل الوسائل والأساليب، وليس أمامها خيار آخر طال الزمن أم قصر.

ومهما بدا ذلك في عداد المستحيلات في هذا الظرف الصعب لن تبقى تحت سوط الأنظمة الرجعية المتخاذلة والمستسلمة إلى الأبد. ولا حاجة للتأكيد على أن هزيمة المشروع الإمبريالي الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط غير ممكنة بدون الجماهير العربية المسلحة بالفكر والبندقية الثورية والمتحررة من بقايا الأوهام حول أدوار القوى الإمبريالية وحيادها التي تجلّت في أبشع صورها ومعانيها، وأشهرت إفلاسها الأخلاقي بشكل غير مسبوق في هذه المرحلة التاريخية.

وفي هذه الأيام الحرجة بكل ما فيها من مآسٍ وعذابات وبطولة سطّرها الأبطال بالدماء الطاهرة، فإنَّ الوفاء لتضحياتهم يتمثل في إحاطة مشروعهم الوطني التحرري بسدود من الحكمة والإخلاص والرؤية الثورية الواضحة، والتحالفات المبدئية والثبات على المبدأ والقسم الذي تعاهدوا عليه حتى تحرير فلسطين.. كل فلسطين.