"لست بالخب ولا الخب يخدعني"

د. قاسم بن محمد الصالحي

نجد الدبلوماسية العمانية التي طالما عملتُ وجلستُ واستمتعتُ ونهلتُ من مدرستها، عشتُ حياتي فيها في قلبِ مسرحها الدبلوماسي، استأنسُ بمبادئها لأتشرفُ بتنفيذها واستلهمُ من عواملها الأساسية دروس الحياة الدبلوماسية، وأسباب التميز في معالجتها للقضايا، حين يبرز موقفها بكل شجاعة وبلا خشية أو تردد، فبرهنتْ على نزاهة وصدق في أتونها، واطفأت نارًا هناك ومنعت صراعات.

والوقت الذي قضيته لإعداد مقالي هذا، أشبه بأمواج تجتاح مشاعري، فمرة تأخذني الذاكرة لأيام عايشتُ فيها تعامل الدبلوماسية العمانية لقضايا معينة، فتغمرني السعادة، واخرى تذكرني بأحداث مرت على وطننا العربي فيعتصر قلبي ألمًا، ثم تلبث وتواجهني موجة لاحقة لتعيد إليّ صورة دبلوماسية بلادي التي توحي بإحساس مرهف في قضاياها الانسانية، وفكر قيادتها الثاقب، ومدرستها الجادة في العمل الدبلوماسي، تلك كانت حالتي وأنا أقرأ بيان وزارة خارجية سلطنة عمان في الرابع من نوفمبر 2023م، مستنكرًا الأعمال الوحشية والجرائم البشعة التي تمارس على الشعب الفلسطيني في غزة وعموم أراضيه المغتصبة، مطالبة بتشكيل محكمة دولية لجرائم الكيان الصهيوني في غزة.

الدبلوماسية العمانية عنوان يعكس الحاجة المتجددة لفهم المبدأ، والمنهج، والإتزان، ودقة الرؤية، والتسامح ونبذ العنف، وللقول إن منطق الصدام الذي يتبناه الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين، والغرب الذي يناصره، هو بعيد عن المنهج الدبلوماسي، الداعي لقيام عالم آمن يسوده التعاون والتواصل والتكامل والتعايش.

الحضارة الإنسانية في مفهومها حضارة واحدة تعاقبت الأمم على بنائها خلال تاريخ طويل، وهي اليوم نتاج كفاح الأمم جميعاً، والسنن الاجتماعية، الحرية والعدالة والمساواة والإخاء، الإنسانية جميعها شركاء في شرعتها، ففي حقوق الإنسان التي مرت عبر التاريخ في مواجهات كثيرة ضد الاستبداد والقهر، شارك حكماء عمانيون بصيحة العدالة في وجه الظلم، بما تملي عليهم عقيدتهم وقيمهم ومبادئهم، وما تقدمه الدبلوماسية العمانية اليوم ما يقطع الشك في قدرتها الحكيمة على التأثير إيجابياً في القضايا المحلية والإقليمية والدولية، وقدرتها على تغليب الحوار في فض النزاعات، وقيام المصالحات، وهو الدور الذي قامت وتقوم به منذ أزمنة بعيدة بثبات وحكمة .

وإذ أكتب هذه السطور فإنني أرجو أن أضع بين يدي القاريء شيئًا مما انتهجته الدبلوماسية العمانية في قضايا عدة، وما بذلته من جهد في السلم العالمي، وفق منهجها السياسي المتزن، وحضورها البارز الرصين، ليس فقط لما أبدته من مواقف ثابتة، وربما المهم العربية والإسلامية، وإنما أيضا العوامل الأساسية في تاريخها، والأهم كيف توظف الآن تاريخها السياسي خدمة لقضايا الأمة.

ففي خضم فوران بركان الصراع الفلسطيني- الصهيوني، يبرزُ دور الدبلوماسية العمانية المميز، المستند على العدالة، الداعم للحق، والمعالج لكل ما يهدد الإنسانية، وها هي، بعد مراقبتها لمجريات الأفعال الإجرامية التي ارتكبتها وترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني، خرجت بالقول الفصل، في بيان واضح لا لبس فيه ولا خداع، تُرسخ فيه قناعتها بأن دبلوماسية السلام تسطيع أن تسود دون ربطها بجرائم إبادة يمارسها الكيان الصهيوني المحتل على شعب يطالب بحقوقه وينشد حريته، جاء قول الدبلوماسية العمانية بمنظور العقلانية والواقعية، فهي لا تميل للمخادعة ولا تقبل الخديعة، لأنها لا تستنسخ عملها بل تقوم به بالأصالة، على أساس أن قضية الحق والعدالة هي الهدف والغاية، والسلام الأرضية الأصح لتجسيد حقوق الإنسان.

عندما أُخبركم بنجاح الدبلوماسية العمانية في قضية فلسطين، فإني أروي قصة حضارية أوسع، كونها لا تترجم فقط المكانة التي تحتلها عمان في نادي الدبلوماسية الدولية، والتي بوأتها منصة صلبة للحوار الدبلوماسي والمفاوضات السياسية، وإنما لأبرهن عن عدالة القضية ومكانتها الأخلاقية والدينية والإنسانية، وهنا يكون للدبلوماسية العمانية مؤثراتها الذاتية من أول الأمر، ثم بعد ذلك قوتها الناعمة التي تملكها، وعلاقتها بالعالم، ومن دورها الإنساني الذي جاء بعد أن دارت عجلة الصراع العربي - الصهيوني الذي هو بالتأكيد ليس شاملا، ولكنه بالتأكيد انتقل الى نقطة تحول مُهمة من صراع وجودي إلى صراع تعايش مع الآخر، التي كانت اللحظة الفاصلة فيه هي حرب أكتوبر 1973م. لم يكن الاهتمام حينها بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وإنما كان الهدف إقامة نظام شرق أوسطي مُستقر تهيمن عليه الولايات المتحدة، وقائم على قدرة النظام الصهيوني في فلسطين المحتلة على ردع الدول العربية مع إعطائه الوقت الكافي لكي يتغلب على هشاشة تكوين دولته. وما يقوم به الجيش الصهيوني من إبادة جماعية في غزة ليس جديدًا على النظام الصهيوني، ومهما فُتح الضوء الأخضر الأمريكي والغربي لهذا الكيان الغاصب في ارتكاب جرائمة البشعة في حق الشعب الفلسطيني، فإن القول المناسب لمؤججي الصراع ومرتكبي الجرائم هو القول المأثور "لست بالخب ولا الخب يخدعني".

تعليق عبر الفيس بوك