الحرب على غزة وحقيقة التفوق الغربي الصهيوني

 

عبد النبي العكري

أُثيرت مُؤخرًا قضية مُهمة كشفت عنها الحرب الصهيونية الجارية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وتجليات العدوان ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، والتي ترقى إلى كونها حرب إبادة وتطهير عرقي، إلى عدم اكتراث الصهاينة والغرب بالشرائع الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وهي تكشف أن الغرب وحليفه الكيان الصهيوني لا يرى قيمة متساوية للإنسان الغربي مع الإنسان غير الغربي وهو هنا الفلسطيني أو العربي، فيما يطرحه من مواثيق ودساتير وغيرها؛ بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني العالمي واتفاقيات جنيف الأربع وغيرها، وما يترتب عليها من مواقف وإجراءات؛ بل إن المعنيّ بها الغرب فقط. أما ما عداهم فهم ما دون البشرية المتحضرة.

منذ البداية يجب التأكيد أن دول الغرب الكبرى، وفي مقدمتها أمريكا هذه المرة شريك للكيان الصهيوني في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، وليس داعمة فقط كما في الحروب السابقة، وهو شريك له في مخططه لإبادة الشعب الفلسطيني كما أباد المستوطنون الأوربيون سكان الأمريكتين الأصليين.

اتفقت دول العالم بقيادة الدول المنتصرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية والفاشية على تبني ما عُرف بحقوق الأمم وحقوق الإنسان المتساوية، والتي تجسدت في الأمم المتحدة الشرعية الدولية، والتي كان من المفترض أن تؤسس لنظام عالمي عادل للأمم والأفراد، لكن الدول الغربية الكبرى لم تكن مخلصة لهذه المبادئ وهو ما يكشف عنه سجل حروبها الاستعمارية ونهبها لثروات الشعوب حتى اليوم. أما العقيدة الصهيونية، فهي تقوم أساسا على نفي الوطن الفلسطيني وحقوق الشعب الفلسطيني لصالح وطن قومي لليهود وتحويل الشعب الفلسطيني إلى لاجئين أو مقيمين دون حقوق كمواطنين أو بشر.

جرت العادة في مجرى الصراع ما بين الصهاينة من ناحية والفلسطينيين والعرب من ناحية أخرى، أن يكون الضحايا الفلسطينيون والعرب أضعاف الخسائر الصهيونية، وأن ارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين والعرب شيء اعتيادي، وأن أسيرًا صهيونيًا يساوي 1000 أسير فلسطيني أو عربي. كما إن جميع جرائم الصهيونية؛ وهي بمثابة جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى الإبادة الجماعية تجد لها دعمًا وتبريرات لدى الغرب؛ باعتبار حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس وعن الشعب المهدد في وجوده، وعادة ما تستحضر المحرقة النازية بحق اليهود لتبرير المحارق المتكررة ضد الفلسطينيين والعرب. إذا فما هو مختلف هذه المرة في موقف الكيان الصهيوني والغرب هو ما جرى ويجري في غزة واستطرادا ما يجري بحق الفلسطينيين في باقي فلسطين؟

المبادرة الفلسطينية والرد الصهيوني الغربي

منذ حرب النكبة في 1947-1948، وباستثناء حرب أكتوبر 1973، فقد كان الكيان الصهيوني هو من يبادر بالحرب على الفلسطينيين والعرب، والذين يتكبدون أضعاف خسائر "الإسرائيليين" في الأرواح والمعدات، وتحتل أراضيهم وتدمر حواضرهم ومنشئاتهم. أما في هذه الحرب التي بدأت يوم السبت 7 أكتوبر 2023، بادرت قوات المقاومة الفلسطينية (القسام) الذراع العسكري لحركة حماس، بشن عملية "طوفان الأقصى" ضد المستوطنات المحيطة بغزة، وكانت عملية مفاجئة للعدو الصهيوني، وألحقت به خسائر جسيمة تمثلت في 1400 قتيل وآلاف الجرحى، معظمهم من العسكريين. وقد أحدث ذلك صدمة قوية في الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، بحيث أطلقوا عليها بأنها أكبر كارثة بعد المحرقة النازية لليهود.

في ضوء ذلك، تقرر شن حرب إبادة ليس ضد حماس فقط المعنية بالحرب وإنما ضد الشعب الفلسطيني في غزة وعمليات انتقام واسعة للفلسطينين في باقي الأراضي المحتلة. وهنا لن نذهب في تفاصيل الحرب، وإنما سنقتصر على الجانب العقائدي وقناعة التفوق الصهيوني الغربي.

بعد قرار حكومة الحرب الصهيونية برئاسة نتنياهو، بات واضحًا أنها لن تلتزم بأي من قواعد الحرب التي أقرتها الشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني لحماية المدنيين والمنشآت والمؤسسات والبنية المدنية كما نصت عليه اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتكولات الملحقة لعام 1976. وفي هذا الصدد، فإن أمريكا شريك للكيان الصهيوني، والغرب داعم للكيان في هذه الحرب وما يترتب عليه.

وبناءً على ذلك، فقد قرر الكيان إحكام الحصار التام على قطاع غزة بقطع إمدادات الماء والكهرباء والأدوية والوقود والأغذية والقيام بقصف جوي وبحري وبري على القطاع لتدمير كل ما هو قائم على الأرض من مبان وبنية تحتية بما في ذلك المدارس والمساجد والكنائس، حيث بات عدد الشهداء قريبًا من 10 آلاف شهيد و2000 مفقود وعشرات الآلاف من الجرحى، والأعداد مرشحة للازدياد.

اللافت للأمر أن الكيان الصهيوني مُصِرٌ على المضي في الحرب بما في ذلك الاجتياح البري حتى استئصال حماس أو الأحرى المقاومة الفلسطينية- كما يزعم- ولو تطلب الأمر إبادة عشرات الآلاف من الفلسطينيين. وقد أيدت الدول الغربية الكبرى ذلك برفض وقف لإطلاق النار وإغاثة الضحايا قبل تحقيق الهدف "الإسرائيلي" بالقضاء على المقاومة وتهجير فلسطيني غزة في نكبة فلسطينية ثانية.

الدلالات الأبدية

في أعقاب بيانه بفرض الحصار على غزة، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، الفلسطينين بأنهم "وحوش بشرية" فيما وصف رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو هذه الحرب بأنها حرب بين الحضارة (التي يمثلها الكيان الصهيوني وحلفاؤه) والشر الذي يمثله الفلسطينيون وحلفاؤهم. كما وصفها بأنها الحرب الثانية للاستقلال.

الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون يعتبرون المقاومة الفلسطينية "منظمات إرهابية" تستحق الإبادة، وأن الشعب الفلسطيني "حاضنة الإرهاب"، ويترتب على ذلك ليس استهداف منظمات المقاومة "الإرهابية" وإنما حاضنة لهذه المنظمات أيضًا. وعلى هذا الأساس برر المتحدث العسكري الجنرال ريشارد هيشت تدمير مخيم جباليا بوجود أحد قادة القسام، حيث ت بعلي ذلك أكثر من 500 قتيل ومصاب.

أما الحجة الثانية لاستهداف أي مبنى بما في ذلك المستشفيات، ومنها مستشفى الشفاء، هو وجود ما يزعمون أن أنفاق حماس تحتها. وفي تصريح يائير لبيد قائد المعارضة الإسرائيلية أكد أن "أسوأ ما في التغطية الإعلامية هو مساواة دولة إسرائيل الديمقراطية في حمايتها لمواطنيها بحماس المنظمة الإرهابية"!! بل وصل الأمر بأحد قادة الكيان أن يُبرر قتل الأطفال الفلسطينيين أنهم "مشروع إرهابيين" ومن ثم لا بأس بتصفيتهم احترازيًا!

وباستثناء تصريحات خجولة للمسؤولين الغربيين ضرورة مراعاة الأطراف المتحاربة لسلامة المدنيين في الجانبين، فإنهم يؤكدون حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها وشعبها، مع استمرارهم في دعمها ومعارضتهم لوقف إطلاق النار ولو لأسباب إنسانية، ومنع مجلس الأمن من ذلك، وتعطيل منظمات الأمم المتحدة للإغاثة، وتهميش الأمين العام للمنظمة الأممية أنطونيو جوتيرش.

من أهم دلالات حرب الإبادة الصهيونية هو أن الكيان الصهيوني والغرب لا يعتبر الفلسطينيين، بشرًا على قدر المساواة مع "الإسرائيليين" واليهود عمومًا، وبالتالي لا تنطبق عليهم قواعد الشرعية الدولية في زمن الحرب والنزاعات وبذي يجب أن تمتع المدنيين منهم بالحماية؛ بل هم دون ذلك الذي لا بأس أن يمضي الكيان الصهيوني ي حربه لتحقيق كامل أهدافه بغض النظر عن الثمن البشري الباهظ، بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترقى إلى حرب الإبادة، وذلك ينطبق أيضا في تعامل الصهاينة مع المقاتلين والأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم.

وعندما نتحدث عن ضحايا سكان غزة المدنيين، فإن نصفهم من الأطفال، وأن ثلثيهم من الأطفال والنساء، وأن عائلات بأكملها قد أبيدت أو دُفنت تحت الأنقاض. وتستهدف القوات الصهيونية أطقم الإسعاف الطبية والأطباء وأصحاب المهن الطبية وعائلاتهم والصحفيين وعائلاتهم. ويشمل التدمير أحياء سكنية بأكملها ومدارس ومستشفيات ومساجد وكنائس، والتي يلجأ إليها الآلاف من النازحين، وكذلك منشآت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) المفترض أنها تملك الحصانة؛ حيث استُشهد العشرات من موظفيها. كما يشمل القصف والتدير مناطق طلب الجيش الصهيوني من أهالي غزة التوجه إليها من مناطق سكناهم باعتبارها آمنة، لكنه تم تجميعهم لا استهدافهم بالقتل.

سيسجل التاريخ أن الحرب الصهيونية على الفلسطينيين في غزة لا سابق لها في مدى الإبادة والتدمير الهائل لشعب من 2.3 مليون نسمة، محشورين في رقعة مكشوفة ومنبسطة ومزدحمة بالمباني المتلاصقة في مساحة لا تتعدى 370 كم2. وسيسجل التاريخ أن الكيان الصهيوني وبمشاركة من دول غربية وتواطؤ من الغرب وحلفائه وخذلان عربي مشين ولا مبالاة من غالبية العالم، قد شن حرب إبادة لاإنسانية وتطهيرًا عرقيًا وانتهاكًا خطيرًا للقيم والشرائع الحضارية الإنسانية، من دون أن يترتب عليه أي عقاب؛ بل العكس حصل على المباركة والدعم من قبل ما يُعرف زورًا بـ"العالم الحر"!!