جزى الله الشدائد

 

محمد البطاشي

جزى الله الشدائد كل خير // وإن كانت تغصصني بريقي

وما شكري لها حمدًا ولكن // عرفت بها عدوي من صديقي

 

رحم الله الإمام الشافعي الذي رصع هذه الأبيات على جبين الشعر وهي تنطبق اليوم على الأوضاع والظروف الراهنة التي تمر بها الأمة، فقد كشفت معركة طوفان الأقصى المجيدة الغطاء وارتفع الستار وسقطت الأقنعة واتضحت المواقف وتبين الرشد من الغي وتمايز الخبيث من الطيب والضلالة من الهدى، وسقطت دول وقادة وشخصيات تشدقت طويلاً بنصرة المظلوم والتمسك بالحق والقيم والمبادئ والانحياز الدائم للحق ومفهوم القرية الواحدة، التي يتألم أدناها لمصاب أقصاها، وإلى ما هنالك من الشعارات البراقة التي تخفي وراءها دمامة وقبحاً شديدًا، ولست هنا بصدد تفنيد تلك المواقف ولا كيف افتضحت فذلك أتركه للتاريخ وفطنة القارئ الكريم.

هي حرب الأحزاب إذن مهما تستر المصطفون وراءها خلف أقنعة وأسباب وذرائع هي أقبح من الذنب وأوهى من بيت العنكبوت، تأتي أمريكا بقضها وقضيضها، وتحشد أساطيلها وأكبر حاملات طائراتها وسفنها وطائراتها القتالية الشبحية وغير الشبحية ومستشاريها وجنرالاتها واستخباراتها وأقمارها التجسسية وجسر لا ينقطع من العتاد المتطور للغاية من الذخائر والصواريخ والمسيرات وقوات النخبة والطيارين والجنود والمرتزقة وسيل منهمر من الأموال والمساعدات المختلفة، وزيارات متتالية للمسؤولين الأمريكيين ابتداءً من الرئيس ووزير الخارجية ووزير الدفاع وقائد الأركان وجنرالات الجيوش، ولم تفوِّت بريطانيا الفرصة ودخلت المزاد فجاءت بسلاحها وسفنها وطائراتها المقاتلة ورئيس وزرائها، وفرنسا جاءت تزوم وجلبت أسلحتها وطائرات مسيرة وجاء رئيسها مساندا ومعانقا المهزوم نتنياهو، وألمانيا كان لها حظ في تقاسم العار فقد جاء رئيسها-الذي شاهدناه منبطحًا في مطار بن جوريون لمجرد سماعه لصافرات الإنذار- مُعزِّيًا الصهاينة في مصابهم الجلل ويواسيهم فيما حلَّ بساحتهم من خراب وفضيحة مجلجلة ستبقى أبد الدهر، بالإضافة إلى دعم سياسي غير مسبوق من حلف شمال الأطلسي بجلالة قدره، وسبعة أجهزة مخابرات عالمية ودول أخرى كثيرة وعديدة وما خفي كان أعظم بكثير.

الدول الشرق أوسطية لم تتخلف عن مسايرة ركب العار والشنار- إلّا من رحم ربك- وسجلت مواقفها المتخاذلة؛ بل والخيانية في أحايين عديدة ورضت أن تكون مع الخوالف ومطية للغرب والصهيونية العالمية، ظنًا من قادتها أن في مجاراة أمريكا وربيبتها طوق النجاة وبر الأمان وسفينة السلامة، وما دروا وما وعوا وما دار بخلدهم أن الدور عليهم قادم، ورهانهم خاسر، وأنهم قد جلبوا لأنفسهم وأنظمتهم بفعلتهم هذه عارًا لا ينمحي ونقطة شديدة السواد في تاريخهم المليء بالمخازي؛ فبعض الأنظمة لم نسمع لها خبرًا كأن الله قد ألقمهما حجرًا فغصت به، وبعضها اكتفى بالإدانة والشجب والاستنكار الخجول، أما بعضها فقد جاهر بخطيئة التواطؤ مع العدو وحمل الضحية وصاحب الحق وزر ما يحدث وذلك والله مما تستك منه المسامع.

نقول إن هذه المنازلة التي رجت الأرض رجًا وبست الجبال بسًا، قد كشفت من هم أصحاب المشأمة ومن هم أصحاب الميمنة فأولئك في الخسران المبين وسيلعنهم اللاعنون وصفحات التاريخ تسجل خزيهم وانهزامهم وتخاذلهم؛ بل وخيانتهم لأماناتهم وعهدهم جزاءً بما اقترفته أيديهم. أما أصحاب اليمين وفي مقدمتهم فرسان الميدان ومجندلو الشجعان وطوق الأمان، حماة الحمى وأسود الوغى ومفخرة الإسلام والعرب وهم الأمل اليوم وقادة لواء التحرير وينطبق عليهم وصف ذو العزة والجلال حين قال عز من قائل "لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا"، وكل من وقف معهم بحاله وماله ودعائه وقلمه وقلبه وهم أغلبية هذه الأمة وكثرة من أحرار العالم المؤمن بالقيم الإنسانية النبيلة.

فيا أيها الغرب وقائدتكم أمريكا الآثمة، نقول لكم أما تخجلون من أنفسكم ولا تستحون من شعوبكم ولا تحسبون للتاريخ كيف سيوصمكم وبأي وصف سيصفكم، أو كل هذه الحشود الهائلة التي لم تشهد المنطقة مثيلا لها منذ حرب الخليج من أجل إرهاب فئة قليلة من المؤمنين البواسل والرجال الصماصم والليوث الضراغم، يتمركزون في مساحة صغيرة من الأرض لا تتعدى 365 كم2 قد مرغت أنف العدو الصهيوني في الوحل وجلبت له العار والشنار في أقبح صوره إلى يوم يبعثون.

أكثر من عشرين يوما مرت على هذه المنازلة الكبرى ومعكم هذه الحشود والجيوش الجرارة وهذا القصف الهمجي جوا وبرا وبحرا وهذه القنابل الإرتجاجية وأشد الأسلحة فتكا وتدميرا ولم تتجرأوا على الدخول إلى غزة المحاصرة منذ عام 1967م. وكلما حاولت فرقة منكم التقدم امتارا قليلة فإذا هم بين قتيل وجريح وأسير حتى لم تجد ربيبتكم في غزة إلا المدنيين العزل والشيوخ الركع والأطفال الرضع والبهائم الرتع لتقصفهم وتدك مساكنهم وخيامهم على ساكنيها؟ أما تستحون من أنفسكم ولا تخجلون من شعوبكم؟ أضاقت الدنيا عليكم بما رحبت حتى لم تجدوا هدفا عسكريا للمقاومة فنفستم عن خيبتكم وحقدكم بقصف المستشفيات والمدارس والمساجد والعمارات ومراكز الإيواء؟ وقطعتم الماء والكهرباء والدواء والغذاء، شاهت وجوهكم وخابت ظنونكم فالضربة كانت قاضية وكراسيكم قد زلزلت زلزالا عظيما ويا عدو الله وعدو البشرية أبشرك بأن السجن قد فتحت أبوابه لك ولعصابتك الدنيئة الخسيسة فتحسسوا رقابكم واختاروا أية ميتة تموتون؟، فما أنتم من الناجين ولا عن السجون بمحصنين فما تبقى بينكم وبينه إلا قاب قوسين أو أدنى، فقطعانكم خائفة مرتعدة وغاضبة غاضبة من هول ما حدث وهم بالفرار لائذون وجنودكم فرائصهم مرتعدة، يحبون الحياة ويكرهون الموت كرها شديدا، وقادتهم للنزال كارهون وعن ساحتها مدبرون "كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ" والموت يلاحقهم أينما حلوا وارتحلوا ثم هو مدركهم، أما أبطالنا ومجاهدونا؛ فوالله هم على الموت مقبلون والموت يفر منهم يرجون إحدى الحسنيين إما النصر؛ فيشفي به صدور قوم مؤمنين، أو الشهادة التي هي غاية المنى وأمنية الأماني.. وإنا لمنتصرون إن شاء الله وهو صاحب الوعد المبين والشأن العظيم رغم كيد الكائدين وخيانة الخائنين وخساسة المُتصهينين ووضاعة المتخاذلين ووقاحة المنبطحين.