مناشدة عن الأخبار والعلوم

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

في صبيحة يوم السبت السابع من أكتوبر 2023، كنتُ كعادتي أتناول وجبة الإفطار مع أمي، وكان زيت الزيتون من بين ما اشتملت عليه مائدة الإفطار، كان الحديث بمثابة "مناشدة" بيني وأمي، إضافة إلى ترديدي "آمين" وراء دعوتها لي بالتوفيق والسداد، صاغيًا إلى "مناشدتها" لي عن "الأخبار والعلوم"، فأحالت الحديث إليّ، وكنت أتحدث معها بمقاس من شعور خفض جناح الذل والرحمة كما أمرني ربي "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء: 24).

وبعد الانتهاء من وجبة الإفطار، كانت كعادتها تصر على أن تقدم هي لي فنجان القهوة "تغنم"، إلا أنني طلبت منها أن لا تحرمني أجر تقديم القهوة لها؛ حيث إن هذا الفعل يدخل في باب بر الوالدين، ولا بد أن أقوم أنا بهذه الخدمة، وكانت أمي قد أمسكت دلة القهوة فعلاً، بعد دقائق قليلة من إقناعها، بدأت بالحديث معها عن زيت الزيتون وفوائده، وأن أجوده يأتي من فلسطين، توغلت في الشرح إلى حد أنني تجاوزت المناشدة عن الأخبار والعلوم، بمشاعر تتراوح ما بين الإحساس بالفخر بما شاهدته في شاشات التلفاز من عمل بطولي نفذته فصائل من مقاومة الشعب الفلسطيني، والعجز الذي ينتابني. في سياق هذا الشعور، أصبح حديثي مجرد سرد لخبر سمعته وشاهدته، تارة بلهجة واضحة، وتارة أخرى تتحول إلى تمتمات لا تفهمها أمي، وهي تتحسب الله سبحانه وتعالى وتدعو للفلسطينيين بالنصر. هذا ما دار بيني وأمي من أخبار في المناشدة لبعضنا البعض، وسرد الخبر كان وسيلة ما بيني وأمي كشفت تأثرنا بما جرى ويجري للفلسطينيين، ونجحت في خلق نوع من أنواع المشاركة الوجدانية مع أمي، تحققت معها موجة تواصلية مع أولئك الذين قرروا أن يحدثوا فرقًا في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، ويجعلوا المقاومة ذات قيمة واقعية لغايات وأغراض ظلت في حالة من التطوير المستمر، ليظهر سر هذا الخيار الذي يجعل الحياة ذات مغزى وجديرة بأن تعاش، ليبقى في نهاية المطاف أن الاستمرار في حلم التحرر والانعتاق من الاحتلال، هو استمرار في الحياة.

بعد ذلك، أتى دور سرد العلوم على أمي، وفق- فهمي- فعادة المناشدة المتوارثة، ولدت في زمن لم تكن فيه وسائل الاتصالات المعروفة في زماننا، ومن ثم فإنّ قدوم شخص من مكان ما كان ينبئ بأنّ لديه أخبار فرح أو ترح أو نحو ذلك أو أن ذاك القادم يملك علماً من العلوم الشرعية، الطبية، الفلك أو علم الأثر؛ فيسأل عن الأخبار والعلوم معًا، وحاولت في جلوسي مع أمي تقمص ذات العالم بالتاريخ بمهارة، القادر على تمرير المشهد التاريخي لفلسطين، التي أصبحت قضيتها سيدة المشهد، فتخطى المقاومون في قطاع غزة المشهد الأبرز في كتابة تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، وتخطوا نظراءهم من حركات التحرر الوطني إقبالا على المبادرة، فنقلوا النضال إلى ساحة العدو، وتصدر تاريخ القضية الفلسطينية الساحة الإقليمية والدولية، وأضحى العالم ينظر إلى الكيان الإسرائيلي كمشكلة وليس حلا، خاصة مع القدرات الفائقة التي أظهرها المقاومون الفلسطينيون لإبراز حقهم المشروع، وحطموا أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" ومنظومة الكيان الأمنية؛ فاجتازوا الجدار الذي توقع البعض أنهم لن يستطيعوا له نقبا، فقلتُ لأمي وأنا أتقمص ذات المبحر في التاريخ، إنه ومنذ الألف الثالثة قبل الميلاد، كانت تعرف بلاد الشام كليًا في تلك الفترة باسم "أمورو" أو الأرض الغربية. أما فلسطين؛ فقد عُرفت منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد بأرض كنعان (كما دلت عليه مسلة أدريمي والمصادر المسمارية ورسائل تل العمارنة). وغالبًا فإن أصل كلمة فلسطين هي (فلستيبا) التي وردت في السجلات الآشورية؛ إذ يذكر أحد الملوك الآشوريون سنة 800 قبل الميلاد أن قواته أخضعت (فلستو) وأجبرت أهلها على دفع الضرائب، وتتبلور صيغة التسمية عن هيرودوتس على أسس آرامية في ذكره لفلسطين "بالستين"، ويستدل أن هذه التسمية كان يقصد بها الأرض الساحلية في الجزء الجنوبي من سوريا الممتدة حتى سيناء جنوبًا وغور الأردن شرقًا، وأصبح اسم فلسطين في العهد الروماني ينطبق على كل الأرض المقدسة، وأصبح مصطلحًا اسميًا منذ عهد هدربان وكان يشار إليه دائمًا في تقارير الحجاج المسيحيين.

أما في العهد الإسلامي، فكانت فلسطين جزءًا من بلاد الشام، ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: إن فلسطين هي آخر كور الشام من ناحية مصر، قصبتها بيت المقدس، ومن أشهر مدنها عسقلان، والرملة، وغزة، وقيسارية، ونابلس، وبيت جبرين. وقد عُرفت فلسطين باسم "جند فلسطين" أثناء التقسيمات الإدارية للدولة الإسلامية، ومنذ تلك الفترة وفلسطين تحمل هذا الاسم، وأصبحت فلسطين قضية خلاف سياسي وتاريخي، ومشكلة إنسانية بدءًا من عام 1897م، (المؤتمر الصهيوني الأول) وحتى الوقت الحالي، وهي تعدّ جزءًا جوهريًا من الصراع العربي الإسرائيلي، وما نتج عنه من أزمات وحروب في منطقة الشرق الأوسط، وكان ثيودور هرتزل (1860- 1904) -زعيم الحركة الصهيونية الناشئة آنذاك- قد قام بزيارته الوحيدة إلى فلسطين عام 1898، في ذات الوقت التي زارها فيه قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني (1859- 1941)، بدأ هرتزل صياغة أفكاره حول بعض قضايا استيطان فلسطين، وكتب في مذكراته سنة 1895 "يجب أن نستولي بلطف على الممتلكات الخاصة في المناطق المخصصة لنا، يجب أن نشجع الشعب الفقير فيما وراء الحدود للحصول على عمل في بلاد اللجوء وعدم منحهم أي فرصة عمل في بلادنا، سيقف ملاك الأراضي في صفنا، يجب تنفيذ سياسات الاستيلاء على الأرض وتهجير الفقراء بتحفظ وحذر، ،بدأت هذه الأحداث بوعد بلفور سنة 1917م، الذي حدد مصير فلسطين، ثم حرب النكبة سنة 1948م، يليها قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967م، ثم الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، ثم اتفاقية أوسلو للسلام 1993م، مرورا بزيارة أرييل شارون إلى القدس عام 2000م، وصولا إلى حصار إسرائيل لغزة وحروبها المتكررة على أهل القطاع في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

تعليق عبر الفيس بوك