"الأبحاث الإنسانية" ركيزة تنموية تفتقر للاهتمام.. وأكاديميون يطالبون بإنشاء مراكز مستقلة لطرح القضايا المجتمعية

...
...
...
...
...

◄ السعدي: لا توجد جرأة في طرح ومناقشة القضايا الإنسانية الحساسة

◄ الظفري: هناك نوع من التحيز للأبحاث العلمية المرتبطة بالتصنيع والربح

◄ الغافري: كثير من القضايا الاجتماعية تقع تحت "خانة العيب" وتعتبر من الخطوط الحمراء

◄ الدراسات الإنسانية هي المصدر الأول لحل التحديات المجتمعية وتحقيق التنمية

◄ رفض بعض المسؤولين الإفصاح عن البيانات يُعيق جهود الباحثين

◄ ضعف التمويل يحد من قدرة الباحثين على إجراء دراسات تعالج المشاكل الاجتماعية

◄ ضرورة إنشاء مراكز بحثية مستقلة للتركيز على القضايا النفسية والاجتماعية

 

الرؤية- سارة العبرية

يُؤكد أكاديميون أنَّ الأبحاث الإنسانية تُعد من الركائز الأساسية لتحقيق تنمية المجتمعات لارتباطها بقضايا الإنسان والأسرة، كما أنها تكشف العديد من التحديات التي تواجه الأفراد من خلال بحث الجوانب النفسية والاجتماعية وتحليلها والخروج بتوصيات ونتائج تساعد الحكومات في اتخاذ القرارات الصحيحة التي تساهم في وحدة المجتمع وتماسكه، لافتين إلى أنه على الرغم من هذه الأهمية، إلا أن هذا النوع من الأبحاث يفتقر للاهتمام على المستوى الرسمي والمُجتمعي.

ويرى الدكتور هاشل بن محمد السعدي محاضر لغة إنجليزية بجامعة السلطان قابوس، أن هناك ندرة في الدراسات البحثية الإنسانية في سلطنة عُمان، وذلك لعدة أسباب منها انخفاض الوعي بأهمية الدراسات الإنسانية وعدم الأخذ بنتائج الدراسات من قبل الباحثين والمسؤولين، وتركيز الاهتمام على الجوانب المادية للدراسات إذ يتم تقييم الدراسات بناءً على مدى قدرتها على تحقيق عوائد مالية وتسويق المنتجات المرتبطة بها، وهو ما يقلل من أهمية البحث الذي لا يرتبط بربح مالي مباشر، بالإضافة إلى تأخير نشر النتائج ببعض الدراسات، وقلة الجرأة في طرح ومناقشة القضايا الحساسة، والاعتماد على المسوحات والاستبانات بنسبة عالية دون الاهتمام بالبحث النوعي والتحليل العميق، مؤكدا ضرورة التركيز على الدراسات ذات البحث النوعي لفهم الظواهر المدروسة بشكل أعمق والحصول على نتائج أكثر دقة ومصداقية.

من جهته، يقول الدكتور سعيد بن سليمان الظفري أستاذ في علم النفس التربوي بجامعة السلطان قابوس، لا يوجد رقم محدد يوضح عدد الدراسات الإنسانية في سلطنة عمان والمرتبطة بالأبحاث النفسية والاجتماعية؛ لكن إذا تمت مقارنتها بالأبحاث والدراسات العلمية والمنشورة في المجلات العربية المحكمة والمجلات الأجنبية، بالإضافة إلى رسائل الماجستير والدكتوراه غير المنشورة، فإنَّ عدد الدراسات والأبحاث المتعلقة بالمجالات الإنسانية قليل جدا.

ويوضح الظفري أن من أسباب عدم الاهتمام سواء من قبل المسؤولين أو المؤسسات أو حتى المجتمع بالدراسات النفسية والاجتماعية، هو قلة الوعي بأهمية هذه المجالات والتركيز على الدراسات المرتبطة بالمجالات العلمية فقط، إذ إن هناك نوع من التحيز للأبحاث التي ينتج عنها تصنيع أو تقنيات معينة لها ربح مادي مباشر، بينما لا يوجد هذا الربح في الدراسات النفسية والاجتماعية رغم أهميتها على المدى البعيد وتأثيرها المباشر وغير المباشر على كثير من القضايا المجتمعية، بما في ذلك القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والوطنية، ويمكن أن يعزى ذلك لقلة فهم بعض المسؤولين في مختلف الجهات لطبيعة هذه الدراسات وأهميتها، مضيفا: "يكفي أن نسوق مثالا واحدا من واقع التاريخ الحديث؛ وهو أن الشعلة التي كانت انطلاقا للربيع العربي في بعض الدول العربية مثل تونس كان سببها موقف اجتماعي نفسي، وهذا يدل على ضرورة اهتمام الحكومات بالدراسات المتصلة بالقضايا النفسية والاجتماعية".

كما يشير إلى ضعف الاهتمام بتوصيات ونتائج الدراسات لضعف الوعي بأهميتها، وكذلك عدم وجود مؤسسات بحثية مستقلة يمكن أن تتولى مسؤولية تفعيل هذه التوصيات والنتائج وإيصالها للجهات المعنية، وعدم وجود سلطة تنفيذية لمثل هذه المؤسسات البحثية في حال وجودها في بعض الدول، مبينا: "لو نظرنا إلى الاهتمام الإعلامي، سنجد ميل بعض الإعلاميين إلى التغيير في نتائج الدراسات العلمية وعرضها بطريقة لا تعكس النتائج الحقيقية التي توصلت إليها هذه الدراسات، مما يتسبب في حدوث حالة من سوء فهم النتائج، وهذا بدوره جعل الباحثين يتجنبون النشر الإعلامي لنتائج دراساتهم العلمية، والاقتصار على نشرها بالمجلات العلمية المحكمة".

ويتابع الظفري: "الدراسات الاجتماعية لا ينقصها شيء مطلقا، فعندما تتحقق المنهجية العلمية الصحيحة في أي دراسة علمية، فإنها جديرة بالاهتمام بغض النظر عن ميدان وتخصص تلك الدراسة، مع ضرورة تراكم المعرفة من دراسات عديدة حول قضية ما، مما يعزز من صحة البيانات وقوتها، وأريد أن أؤكد أن الدراسات الإنسانية سواء كانت نفسية أو اجتماعية، يمكن أن تكون المصدر الأول لحل كثير من التحديات التي تواجه المجتمع في الوقت الحاضر، كونها تتصل بالإنسان الذي هو مصدر كل خير وشر، والذي هو عماد التنمية والتطور، والذي هو المحور الأساسي في رؤية عُمان 2040.

ويؤكد أستاذ في علم النفس التربوي بجامعة السلطان قابوس، أن الدراسات النفسية والاجتماعية مع قلة عددها قدمت كثيرا من المؤشرات الحقيقية حول مختلف القضايا المتصلة بالمجتمع سواء فئة الأطفال أو الشباب أو الأسرة بشكل عام؛ بما في ذلك واقع التنشئة الاجتماعية وقضايا الطلاق والزواج والصحة النفسية، كما قدمت بعض الدراسات مؤشرات عن التماسك الأسري، مشيراً إلى أن إحدى الدراسات التي قام بها المرصد الاجتماعي الذي كان تابعا لمجلس البحث العلمي، قدمت دراسة وطنية ضمت الكثير من المؤشرات المهمة حول القيم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية والوطنية وسلوك الاستهلاك واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والرضا عن الخدمات الحكومية، كما أن هناك دراسات قام بها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات متصلة بالأسرة والتواصل بين الأجيال واستخدام الإنترنت، وكل هذه الدراسات تقدم مؤشرات اجتماعية ونفسية جديرة بالاهتمام.

تحديات الدراسات الإنسانية

ويبين الدكتور هاشل بن سعد الغافري أكاديمي بكلية التربية بالرستاق، أن كثيرا من القضايا الاجتماعية تقع تحت "خانة العيب" وبالتالي تعتبر من الخطوط الحمراء، ولا تمتلك المؤسسات الأكاديمية أو المؤسسات ذات العلاقة أن تبحث في تفاصيلها خوفا من الصدامات المجتمعية، موضحا: "حتى لو امتلكت المؤسسات الاجتماعية الجرأة في البحث في تلك القضايا فإنها تواجه صعوبات جمة في الحصول على البيانات اللازمة أو الحصول على الموافقات لتطبيق الدراسة على أرض الواقع".

ويوضح الدكتور سعيد الظفري أن الباحثين يواجهون عددا من التحديات منها: عدم وعي بعض المسؤولين بأهمية هذه الدراسات وما يمكن أن تقدمه من دعم علمي لواضعي السياسات في تشكيل سياسات حكومية قائمة على البيانات الحقيقية لواقع المجتمع، كما أن بعض المسؤولين يمتنعون الإفصاح عن بعض البيانات التي يطلبها الباحثون رغم التزام الباحثين بالسرية التامة وتعهدهم بعدم استخدام هذه البيانات إلا لأغراض علمية، وفي حين أن هذه البيانات التي يطلبها الباحثون لا تشكل خرقا لخصوصية أصحابها إلا أن بعض من يمتلك هذه البيانات من مؤسسات لا تدرك أهمية البحث العلمي في معالجة القضايا المجتمعية، وتضع مختلف العراقيل والعقبات أمام الباحثين الذين يكونون في الغالب متطوعين، مما يجعل هؤلاء الباحثين يتجنبون الاقتراب من هذه القضايا ويتناولون قضايا ربما تكون أقل أهمية في واقع حياة المجتمع.

ويلفت أستاذ علم النفس التربوي إلى أن قلة التمويل لهذه المشاريع البحثية المجتمعية يحد من قدرة الباحثين على التخطيط لدراسات وطنية تعالج المشكلات الاجتماعية والنفسية، وتحصر مشاريعهم البحثية في دراسات صغيرة النطاق لا يمكن الاعتماد عليها في وضع السياسات الوطنية، بالإضافة إلى عدم تفريغ الباحثين لإنجاز المشاريع البحثية والتي تتطلب جهدا مضاعفا في جمع البيانات نظرا لاتصالها بقضايا المجتمع والحاجة إلى زيارات ميدانية عبر مراحل هذه الدراسات، وهذا لا يتاح لكثير من الباحثين إذ إن معظمهم أساتذة بالجامعات أو موظفين في وزارات خدمية لا تسمح بتفريغهم للبحث العلمي.

ويضيف: "من أسباب ضعف هذه النوعية من الأبحاث، هو عدم وجود مراكز بحثية تُعنى بالدراسات والأبحاث الاجتماعية سواء مراكز مستقلة أو مراكز تابعة للجامعات، كما أنه حين أنشأ مجلس البحث العلمي (سابقا) المرصد الاجتماعي كبرنامج من برامجه الاستراتيجية، لم يتلقَ الدعم المالي الذي حظيت بها البرامج الطبيعية والصناعية والتقنية الأخرى، وتم إيقافه بدمج المجلس مع وزارة التعليم العالي، رغم أنَّ كثيرًا من الدول العربية والإقليمية والدولية تعطي أولوية لمراكز الأبحاث الاجتماعية والنفسية وتخصص لها ميزانيات ضخمة لإدراكها للدور المحوري الذي يمكن أن تقوم به هذه المراكز والمراصد الاجتماعية في بناء الإنسان، والمساعدة على حل مشكلاته، وتقديم العون لواضعي السياسات الاجتماعية من خلال توفير بيانات حقيقية يمكن أن تبنى عليها قرارات مصيرية في واقع المجتمعات في العصر الحاضر".

ويلفت الدكتور هاشل بن سعد الغافري إلى وجود تعاون- أحيانا- بين بعض المؤسسات ذات العلاقة بالقضايا الاجتماعية والمؤسسات البحثية لدراسة بعض المشكلات الاجتماعية، لكن نتائج الدراسات تظل حبيسة أدراج المؤسسة المعنية ولا تبوح بها وكأنها ملكية خاصية وتضعها في خانة السرية.

من جانبه، يقول الدكتور سعيد الظفري: "يوجد اهتمام ضعيف من المؤسسات البحثية بهذا النوع من القضايا، لكنها في الغالب لا تحظى بالأولوية في الدعم وخاصة من قبل مصادر الدعم للمشاريع الاستراتيجية والتي تركز في تمويلها على أبحاث العلوم الطبيعية، وهذا التحيز ضد الدراسات الإنسانية أثر بشكل كبير في عدم تقدم العلوم الإنسانية وقلة الأبحاث العلمية الكبيرة فيها، وحصر الأبحاث العلمية المتوفرة في مشاريع بحثية صغيرة لا تسهم بشكل كبير في بناء هذه العلوم، وتضعف من قدرتها في الإسهام في حل مشكلات المجتمع؛ نظرا لمحدودية الموارد المتوفرة للباحثين".

ويؤكد أن "السلطنة بحاجة ماسة إلى إنشاء مراكز بحثية مُستقلة تركز على القضايا النفسية والاجتماعية، ويتم إنشاؤها باختيار أفضل الباحثين العُمانيين في هذه المجالات، ويتم تخصيص موازنات كبيرة تمكنها من القيام بمشاريع بحثية استراتيجية يمكن أن تعالج من خلالها كثيرا من المشكلات الاجتماعية والنفسية، وأن تقدم مؤشرات مهمة للتنمية المجتمعية، لكي تسهم في حل كثير من المشكلات الاقتصادية بالتركيز على قياس سمات الشخصية، ومختلف المتغيرات النفسية والاجتماعية، على مستوى الفرد والأسرة، وقياس المهارات النفسية والاجتماعية للشباب، وتصميم برامج تدريبية للرقي بمستوى الشباب من النواحي النفسية والاجتماعية، وخاصة فيما يتعلق بالإيجابية والقيادة وتحمل المسؤولية والتفكير وريادة الأعمال والسلوك الاستهلاكي، وتقوية الحس الوطني والانتماء والهوية الوطنية، حتى يكون الشباب العُماني سياج حماية وصون لكل ممتلكات وإنجازات هذا الوطن".

تعليق عبر الفيس بوك