الموظفون والوظيفة الأعلى

 

 

صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

 

إذا ألقينا النظر على المؤسسات الحكومية والخاصة، نجد في غرفها وأروقتها أنواعًا من الموظفين الذين يحتاجون إلى التغيير في فكرهم وأسلوبهم وطريقة تعاملاتهم؛ نظرًا لاعتقاداتهم في كيفية الحصول على وظيفة أعلى بنهج يحسبونه صحيحًا يسيرون عليه، بينما هم ليسوا على صواب فيما يفعلونه.

فترى ذلك الموظف المُتحفظ الذي ينأى بنفسه بعيدًا عن كل شأن؛ صغيرًا كان أو كبيرًا، شعاره "من خاف سلم"، ودائمًا ما يشعر أنَّه مراقب في مؤسسته، وأن هناك من يكتب تقارير تُقرر الحكم الفيصل في صعوده الوظيفي من عدمه؛ فينطوي على نفسه مُرتابًا مُتشككًا من الجميع، لا يُخالط أحدًا ولا يحادث أحدًا إلّا فيما ندر حتى لا يُعطي الفرصة لاحد أن يلتقط زلة عليه أو يسجل ملاحظة ضده تؤثر على مساره الوظيفي.

بينما لا أحد مركزًا الأعين عليه أو يتابع تحركاته كما توسوس له نفسه.

أما النموذج الآخر، فذلك الذي لا يجد عملًا في عمله أو أحيانًا عمل بسيط لا يتوافق مع مؤهلاته الدراسية وإمكانياته الوظيفية ولا يتناسب مع الساعات الطوال الملزم عليه قضائها في دوامه؛ وهذا هو الحال في أكثر الأحوال.

يجلس يوميًا بكامل عدته وعتاده يدس رأسه خلف جهاز الكمبيوتر لديه، يُمثِّل أنه يعمل، بينما هو يتجول في مواقع التواصل الاجتماعي أو مَلهيًا بهاتفه النقال.

يرفع رأسه أحيانًا ليرى الرائح والجاي، ثم يعود لوضعيته السابقة، ينظر في ضجر إلى ساعته، يتساءل: متى ينتهي هذا الاحتباس الوظيفي اليومي، والذي لا يستحق عناء الحضور إليه باكرًا ليصل إليه في آوانه من أجل تسجيل حضور لا فائدة منه مفرغا من مضمونه.

مثل هذا يُمارس البطالة المُقنعة بهدوء ورضوخ واستسلام تام لا يعترض ولا يشتكي على وضعه الوظيفي، مُعتقدًا أن هذه هي الطريقة التي ستؤدي به حتمًا إلى الترقية؛ فالموظفون الصامتون الراضخون المستسلمون هم المطلوبون للوظائف الأعلى في اعتقاده، فيبقى مُطيعًا مُذعنًا مُنقادًا، شعاره "وما يُدريك لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرًا". يعيش على بصيص من الأمل الذي لا يأتي، فتضعف شخصيته في ضبابية المسار وتتقلص فلا يعد يعرف من هو وما يكون.

هناك أيضًا نموذج من الموظفين نراه يرسم خلاصة للترقي إلى وظيفة أعلى بأن يتحول إلى منافق كبير مع المسؤولين ومن في حكمهم؛ فيجلهم ويبجلهم ويمدح خصالهم وينثر المودة عليهم متقربًا منهم ولو كان هذا الود مُصطنعًا زائفًا كاذبًا.

كما إن هناك الموظف الذي يسترق السمع لأحاديث الموظفين ويتتبع أخبارهم ويتصيد أخطاءهم ليذهب فورًا إلى المسؤول لينقلها إليه، معتقدًا أنَّ هذه هي الطريقة التي تُظهره بمظهر المُخلِص الحريص على مصلحة العمل وتوثِّق علاقته بالمسؤول وتقرِّبه منه وبالتالي حصوله على الترقية التي يُريد.

وهناك نموذج الموظفة التي يُصوِّر لها عقلها أن طريقها للاستحواذ على وظيفة أعلى هو إظهار جمالها، فتجدها تحضر إلى العمل متبرجة بالمكياج ومُتطيّبة بالعطور والبخور، مرتدية اللباس الذي يشد الانتباه ويجذب البصر، واضعه العدسات اللاصقة والأظفار والرموش الاصطناعية وكأنها ذاهبة إلى عُرس لا إلى وظيفة! وحين تنطق تتحدث بدلع ودلال مع من لديها مصلحة معهم وتلاقيهم عند بابها بترحابٍ. كما تذهب متغنجة إلى مكاتب المسؤولين الكبار لتجلس مع مديري مكاتبهم ومنسقيهم لعل المسؤول الكبير يمر ويراها ويعجب بها فيضمها إلى طاقمه الوظيفي المُقرب لتكون تلك وسيلتها للترقي. أما الموظفون والمسؤولون الذين لا ترى فائدة منهم فلا تكترث بهم ولا تعطيهم وجهًا!

أيضًا هناك نموذج الموظف الذي يرى وسيلته في الترقي بالتقليل من شأن زملائه الموظفين الذين يراهم منافسين له في عمله، فيسُبَّهم في غيابهم ويصدر الشائعات عنهم ويكذب عليهم عند مسؤوليهم ليغضبوا وينفروا منهم، مُعتقدًا أن ذلك كفيل بأن يؤدي بهم إلى نقلهم ليأخذ هو مكان أحدهم ويكون ذلك سبيله للترقي.

هذه النماذج موجودة في غرف العمل وأروقتها وغيرها أكثر، وهذا لا يلغي أو ينفي وجود العديد من النماذج الراقية من الموظفين المُخلصين المُعتدلين المُعتزين بأنفسهم رفيعي الشأن بذواتهم المصونة. لا تُعليهم الوظيفة؛ بل هم يعلونها ولا تزيدهم شرفًا؛ بل هم يشرفونها، وهم المكسب للوظيفة العالية لا الوظيفة العالية مكسبًا لهم.. شرفاء لا يرتدون الأقنعة ولا يتزيّفون أو ينافقون أو يخدعون أو يسرقون. عكس أولئك الذين ينظرون إلى الترقية إلى وظيفة أعلى، على أنها مغنمٌ يجب اصطياده بشباكهم بأي طريقة حتى ولو سقطت كرامتهم في الطريق!