حاتم الطائي
◄ تنمية اقتصاد المحافظات ركيزة أساسية في أولويات النهضة المتجددة
◄ ضرورة ترسيخ اللامركزية والاستفادة من الخصائص النسبية للمحافظات
◄ اقتصادنا لن يحقق النمو المنشود دون منظومة تنموية شاملة للمحافظات
لا تقتصر عملية التنمية الشاملة بالمحافظات على طرح وتنفيذ المشروعات بمختلف أنواعها وحسب، ولا تعتمد فقط على الخُطط المركزية للحكومة؛ بل يجب أن ترتكز في مسارها الرئيسي على ما تبذله الإدارات المحلية في كل مُحافظة من جهود حثيثة تضمن بناء منظومة اقتصادية محلية تدعم التوجهات العامة للدولة والسياسات الرئيسية، والاستراتيجيات الكبرى، ونخص بالذكر هنا الرؤية المستقبلية "عُمان 2040".
وتنمية المحافظات تمثل واحدة من أولويات النهضة المتجددة، علاوة على كونها ركيزة أساسية في مسار التنويع الاقتصادي، من خلال الاستفادة من المقومات الحصرية لكل مُحافظة على حدة، فالمحافظات السياحية تختلف عن المحافظات الزراعية، كما إن المُحافظات الساحلية التي تشتهر بالإنتاج السمكي تمضي في جانب آخر، علاوة على المحافظات التجارية التي تزدهر فيها الحركة الاقتصادية بفضل ما تنعم به من موانئ ومناطق حرة واقتصادية وخاصة وصناعية. وهذا التنوع في اقتصادات المحافظات يضعنا أمام خريطة اقتصادية متكاملة الأركان، قادرة على تعظيم العوائد والمنافع وتحقيق التطلعات وفي المقدمة منها توفير فرص العمل للشباب في الولاية التي يقطن بها لتحقيق التوزيع النسبي المأمول للسكان، بما يتواءم مع حركة العمران والتنمية ويُعزز الاستدامة. كما إنَّ من شأن تعزيز اقتصادات المحافظات أن يفتح المجال أمام تنمية خاصة تصبغ كل محافظة بميزة تختلف عن نظيراتها من محافظات وطننا العزيز.
فكيف يمكن لنا تعزيز اقتصادات المحافظات وتنميتها بما يُحقق الأهداف المنشودة والتطلعات المأمولة؟
الواقع يُؤكد أنَّ عملية التنمية الشاملة والمُستدامة واجهت العديد من التحديات على مدار العقود الماضية، والتي تسببت في عدم تحقيق كامل الأهداف التي كنَّا نتطلع لها دائمًا، ولذلك يتعين على المؤسسات الفاعلة في الدولة أن تُكثِّف الجهود من أجل تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية في المحافظات، ولذلك نطرح خمس نقاط أساسية لبلوغ هذا الهدف السامي، كما يلي:
أولًا: تعزيز الإدارة اللامركزية للتنمية في المحافظات، من خلال توسيع صلاحيات المحافظين والولاة في اتخاذ قرارات اقتصادية تُعزز الجذب الاقتصادي، وهنا تتجلى أهمية الميزات النسبية لكل مُحافظة؛ إذ إنَّ تطبيق اللوائح والقوانين وفق آليات لا مركزية تُراعي خصائص البيئة الاقتصادية في كل محافظة سيحقق نتائج إيجابية واعدة، سواء على مستوى الاستثمارات وتنميتها، أو من حيث زيادة حجم القطاع الخاص، ومُضاعفة إسهاماته في جوانب التوظيف والعائدات الضريبية والمسؤولية الاجتماعية، وغيرها من الإسهامات التي تتعاظم كُلما نَمَا وزاد حجم هذا القطاع. وهذا يتحقق من خلال دعم خطط القطاع الخاص في إنشاء مشاريع نوعية في مجالات واعدة مثل السياحة والثروة السمكية والزراعية، والمشاريع الصناعية، ومشاريع ريادة الأعمال، من خلال تقديم التسهيلات اللازمة، وفي المقدمة منها التمويل المُيسر، الذي يُمنح بمعدلات فائدة مُنخفضة، وهنا يأتي دور بنك التنمية العُماني، من خلال زيادة مُخصصاته، وتخفيف شروط الائتمان، وهذا يقودنا إلى النقطة التالية.
ثانيًا: سن تشريعات وقوانين ولوائح مُحفِّزة للشباب لتأسيس شركاتهم ودعهمم ماليًا، على أن تتضمن هذه التشريعات عدم ملاحقة الشباب المُتعثر وسجنه في حالة عدم الوفاء، من خلال تقديم كل سبل التسهيل والسداد المُيسَّر للجادين فعلًا منهم، ونحسب أن جميع رواد الأعمال الشباب جادين للغاية في أعمالهم، لكن ظروف السوق والتأثيرات الخارجية الناتجة عن الأوضاع الجيوسياسية وغيرها، قد تتسبب في نتائج سلبية على أعمالهم، ولنا في أزمة كورونا والركود العالمي المثل والعبرة.
وعندما نتحدث عن دعم الشباب، تترآى أمامنا التجربة المُلهمة لشباب نزوى في تطوير حارة العقر، وتحويل منطقة كانت بالفعل أشبه بـ"مُدن الأشباح" إلى نقطة جذب سياحي تفوّقت على مواقع أخرى.
ثالثًا: زيادة موازنة المحافظات خلال المرحلة المقبلة، فكل محافظة مُخصص لها 20 مليون ريال خلال الخطة الخمسية العاشرة، ضمن برنامج حكومي بدأ بـ10 ملايين ريال ثم تضاعف الرقم بتوجيهات سلطانية سامية، وهذا يعكس الرؤية السامية السديدة والتي تؤمن بدور المحافظات في التنمية، وأهمية تعميق اقتصادات المحافظات. غير أن ضخ المزيد من المُخصصات المالية في المحافظات على مدى السنوات المُقبلة من شأنه أن يُضاعف جهود التنمية المحلية، ويصل بها إلى آفاق لم نكن نتوقعها من قبل، خاصة إذا ما توازى ذلك مع ترسيخ الإدارة اللامركزية، وزيادة صلاحيات المحافظين والولاة كما ذكرنا. لكن في الوقت عينه، يجب أن ترتبط هذه المُخصصات بتحقيق الأولويات، وفي المقدمة منها خلق فرص وظيفية وتحفيز رواد الأعمال، وزيادة إسهامات القطاع الخاص من خلال تنمية أعماله ومساعدته على الازدهار.
رابعًا: تعميق أدوار غرفة تجارة وصناعة عُمان في نمو اقتصادات المحافظات؛ حيث إن الغرفة هي الممثل الرسمي للقطاع الخاص والمتحدث باسمه، وأي جهد لتنمية القطاع الخاص دون دور فاعل للغرفة، بمثابة حرث في الماء؛ الأمر الذي يفرض على الغرفة أدوارًا إضافية يمكنها القيام بها من خلال فروعها المنتشرة في أنحاء السلطنة، وما تزخر به من قاعدة بيانات شاملة لكل شركات وأنشطة القطاع الخاص، إلى جانب تعظيم الدور البحثي للغرفة في إثراء الفكر الاقتصادي لكل محافظة، عبر تسليط الضوء على القطاعات الواعدة وفق نظرية "الميزة النسبية لكل محافظة".
خامسًا: لضمان إنجاح نمو اقتصاد كل محافظة، يجب العمل على تعزيز المنافسة بين المحافظات؛ بل وبين ولايات كل مُحافظة، فيما يتعلق بجهود جذب الاستثمارات والتطوير المستمر للاقتصادات المحلية وفق آليات محددة. وهنا نُشير بوضوح إلى أهمية تهيئة المناخ الاستثماري لكل محافظة، فلا يُمكن بأي حال أن نجد محافظة تساهم بنسب مرتفعة في الناتج المحلي الإجمالي، بينما محافظة أخرى لا تستطيع الإسهام ولو باليسير، وهذا يُحتِّم على الجهات المعنية معالجة الاختلالات في بنية المنظومة الاقتصادية المحلية، وتمركُز قطاعات بعينها في محافظات دون الأخرى، نتيجة لتراجع الجهود التنموية في محافظة دون غيرها. ولا شك أن تحقيق بيئة تنافسية وصحية في كل محافظة سيعمل على توسيع نطاق الاقتصاد وتوليد فرص العمل.
ويبقى القول.. إنَّ العمل المتواصل والجهود الحثيثة التي تبذلها مؤسسات الدولة لن نستطيع أن تُحقق الفوائد المرجوة منها دون منظومة تنموية شاملة تستهدف الاستفادة من الخصائص النسبية لكل محافظة، والانطلاق بمسيرة التنمية نحو آفاق أرحب عبر بوابة المحافظات، والتي تكمن فيها الفرص الواعدة والحقيقية لأي نمو اقتصادي منشود، على أن يتواءم هذا النمو وتنسجم تلك الجهود مع مُستهدفات رؤية "عُمان 2040"، مع ضرورة التفعيل الكامل لأهداف الرؤية وتحقيقها بكل جديّة ووضوح، فأبناء عُمان الأوفياء ينتظرون بفارغ الصبر مرحلة قطف الثمار، في صورة مزيد من الاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.