نجد الواعدة

 

خالد بن سعد الشنفري

 

نجد شبه جزيرة العرب ونجد عُمان أو ما تعارف على تسميته بـ"نجد ظفار"، جارتان تفصل بينهما صحراء الربع الخالي، وكما إن لنجد شبه الجزيرة العربية (حجاز) سلسلة جبال الحجاز على البحر الأحمر تفصلها عن سهل تهامة الشهير، كذلك لنجد ظفار (حجاز) أيضًا هي سلسلة جبال ظفار (جبال القرا) على بحر العرب تفصلها عن سهل صلالة الخصيب، والسمة الغالبة على النجدين هي التشابه الطبوغرافي؛ إذ يغلب عليهما طابع الجفاف وندرة الأمطار، مع اختلاف فى الرياح الموسمية "المونسون"، التي تهب على سلسلة جبال القرا من المحيط الهندي جالبة الأمطار الموسمية "أمطار الخريف"، وأحيانًا الأعاصير الماطرة بغزارة شديدة والتي تمتد أحيانًا إلى نجد والمناطق المجاورة.

الغطاء النباتي للنجدين خفيف يصلح لرعي المواشي، فقد كان الرعي الحرفة الأساسية للسكان فيهما، مستفيدين من الواحات والأودية والشعاب التي تتخلله، ويعد النجد موطناً للقبائل البدوية التي تعتمد حياتهم على تربية المواشي كالإبل والأغنام والتنقل.

ولعلنا نعلم أنَّ هناك الكثير من الدول والحضارات التي كان موطنها النجد ويكفي للدلالة على ذلك ما تم اكتشافه مؤخرا من آثار "الشصر" التابعة لولاية ثمريت (حاضرة نجد ظفار الحالية)، ويُلاحظ في الطريق إلى الشصر آثار لأنهار بمحاذاة الطريق، وكانت الشصر مركز طرق تجارية قديمة كطريق اللبان والحرير، وهناك العديد من الأودية التي تشق أراضي النجد وتجري خلالها المياه في فترات نزول الأمطار.

وفي ظل العهد الزاهر لعمان، قام بعض المواطنين من سكان نجد وآخرون معهم من أبناء محافظة ظفار وعمان قاطبة الذين تأقلموا مع عصرهم وأقلموا نجدهم وحولوا الأراضي- التي كانت بالكاد تسُد رمق مواشيهم سابقًا معتمدة على الغيوث فقط- إلى بساطٍ أخضر يُبهج النفوس ويسُر الناظرين، وعلى امتداد مئات الأفدنة- إن لم نقل الآلاف- وسط الصحراء وحفروا فيها الآبار ومدوا إليها أنابيب المياه.

ومنذ سنوات وهم يُغذُّون أسواق السلطنة بأجود أنواع الفواكه كالشمام والجح والتمر، والخضار كالطماطم والخيار، وأصبحت المصدر الأهم للحشائش، وأخيرًا القمح، الذي بدأت مزارع نجد تُنتج منه كميّات ليست بالقليلة كل عام، ووصلوا بأسعار كل هذه المنتجات الوفيرة في السوق المحلي إلى الحدود الدنيا.

للأسف الشديد ما زال هؤلاء المزارعون يعانون رغم مرور 4 عقود من الجهد، بسبب ارتفاع سعر الديزل لمن لا تصلهم الكهرباء، وما لمسناه من زيارتنا لهؤلاء الأبطال الذين قهروا الصحراء واستزرعوها وحولوها إلى جِنان دائمة الخضرة والعطاء، يُعد مؤشرًا واضحًا على أن معظمهم سيتوقفون مُكرَهين لا أبطالًا، بعد كل هذا التحدي والجهود الجبارة التي بذلوها في الحال والمال عن الاستمرار، وسنفاجأ- لا قدر الله- بعودة أسعار الحشائش ومحاصيل الخضار والفواكه إلى ما كانت عليه سابقًا. ولنتصور انعكاسات ذلك على منتجاتنا من اللحوم والألبان وأمننا الغذائي عمومًا.

هنا ألا يحق لنا وقفة تساؤل إذا كانت الحكومة مشكورة قد شجّعت المواطنين على استزراع النجد ومنحهم الحيازات الزراعية وتوصيل الكهرباء وشق الطرق، فما الذي حدث وأدى إلى هذه الحالة التي تهدد بكارثة حقيقية، إذا لم يتم تداركها عاجلًا، ليس فقط لأصحاب هذه المزارع؛ بل بالنسبة للأمل الذي عقدناه منذ سنوات على مشروع زراعة النجد؛ باعتباره يعول عليه كأحد روافد الأمن الغذائي، والذي يجب تطويره ودعمه، وهو ما تسعى إليه مؤسسات الدولة بشتى السبل وتنفق عليه الكثير.. لكن لماذا التوقف عن دعم بادرة ازدهرت ونمت وأصبحنا نجني ثمارها وتبشر بالخير الكثير مستقبلًا؟!

إذا كان هاجس شُح المياه الذي يُلوَّح به بين الفينة والأخرى هو السبب، أليس من الأجدى معالجته وتذليل العقبات أمام مشروع واعد كهذا؟!

لا أعتقد أن معالجته عصية على أحد، ونحن في هذا العصر من التقنية والعلوم، فقد شُقت أنهار وسط الصحاري، وحسب معلوماتي البسيطة في هذا الجانب أرى أن المهم هو عدم إهمال ما بدأه شباب أخيار على مدى سنين بجهدهم ومالهم، ونتركهم عالقين يعانون، ونقف دون حراك؛ بل علينا إيجاد الحلول والمُعالجة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لماذا لا نستفيد من تجربة دولة شقيقة جارة في إقامة السدود على الوديان؛ إذ لدينا سلسلة جبال ظفار لحجز هذه السيول المطريّة، وهذه الجبال أصلًا حاجز طبيعي ما علينا سوى مُعالجة مخارج الأودية. وقد سبق أن أشرتُ في مقال سابق عن الأعاصير التي تصيب محافظة ظفار بمعدل مرة كل عشر سنوات قد تزيد أو تقل قليلاً (بإذن الله)؛ وذلك حسب رصدها الموثق في أرشيف الجهات المختصة على الأقل ابتداء من الحيمر عام 1949 وانتهاءً بإعصار مكونو الأخير، ألا يستوجب الأمر التفكير ودراسة إقامة سدود؟!

وقد شاهدنا ما نقلته قنوات تلفزيون عمان أثناء الإعصار الأخير "مكونو" السيول النهرية التي أغرقت منطقة نجد وقطعت وغطت الطريق من مقشن إلى ثمريت بطول يزيد عن ثلاثمائة كيلومتر برغم ارتفاع هذا الطريق عن سطح البحر ولن تقتصر فوائد مثل هذه السدود على حجز واستغلال المياه لزراعة النجد؛ بل ستشكل حماية لصلالة أيضًا التخفيف على سديها الحاليين في حالة الأعاصير الكبيرة ومن الحلول السريعة أيضًا لهذه المشكلة إعادة النظر فى نوعية المزروعات في مزرعة نجد للحشائش؛ فقد صرف مبلغ 30 مليون فقط لتأسيس وإنشاء مزرعة نجد، وزُوِدَت بثلاثين محور بحجم 6 أبراج لكل محور وأنابيب مياه بسعة 15 بوصة تضخ 1500 لتر في الدقيقة لكل محور، وعمق آبار يزيد على 450م؛ بينما لم يسمح للمواطنين سوى بعمق 120م وقد نزل منسوب المياه في المنطقة المجاورة بعد فترة قصيرة من تشغيل المزرعة إلى 200م بعد أن كان في حدود 100م، وقد نما لعلم الجميع أن توجيهات السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- كانت باستزراع أجزاء منها ببعض أنواع الحبوب والخضراوات، إضافة إلى الحشائش وهو المقصد الأساسي من إنشاء المزرعة بغية إراحة سهل الباطنة الذي تملّح من كثرة استزراع الحشائش عليه منذ مدة طويلة، إلّا أن الجميع تفاجأ باستزراع كل أراضي المزرعة الشاسعة بالحشايش، وأغرقت الأسواق بهذا لتنافس بذلك مزارعي نجد المواطنين البسطاء الذين قد كثفوا إنتاج أراضيهم بالحشائش، واستوردوا محاور المياه العملاقة المكلفة واستثمروا مبالغ طائلة لهذا الغرض وهي منافسة غير عادلة من مزرعة نجد وهي ما هي عليه من إمكانات وبمشاركة ودعم رئيسي من الحكومة، وقد زادت المنافسة الحكومية لمزارعي نجد بصور شتى.

كل هذا الإغراق لسوق الحشائش أدى إلى ما وصل إليه سعرها، وبالتالى تهديد مُزارعي نجد الحلقة الأضعف في هذه السلسلة التي ستكون نتائجها بلا شك خروج المواطنين- مزارعي نجد- من دوامة هذا الصراع، وكنتجية منطقية ستعود الأسعار إلى سابق عهدها مقاربة لثلاثة ريالات وسيتوقف مربو الماشية البسطاء عن التربية لعدم الجدوى الاقتصادية للتربية مع أسعار الحشائش!

تلك الأسباب مجتمعة ومع عدم وجود دعم لهؤلاء، تسبب بصورة مباشرة إضرارًا بهم، وبالتالي فإن عدم المبادرة بالمعالجة وإيجاد حلول سريعة، لن يقضي على زرع نجد ظفار وحسب؛ بل وعلى الضرع في عُمان أيضًا.

إن الحلول غير مستحيلة كما إنها مُمكنة، المُهم أن تتوافر النوايا الصادقة المُخلصة للوطن؛ إذ يجب الإسراع في دعم مزارعي نجد والوقوف على ما يُمكن تقديمه لهم للخروج من هذه الأزمة التي تتفاقم يومًا بعد يوم والبدء فورًا في وضع خطة شاملة واستراتيجية للنجد، وقد حان وقتها في ظل المتغيرات الاقتصادية واسترشادًا برؤيتنا الوطنية "عُمان 2040"، لتعزيز الاعتماد على المصادر غير النفطية في الاقتصاد الوطني.

نسأل الله التوفيق والسداد للجميع وهو من وراء القصد. حفظ الله عُمان وأطال عمر سلطاننا المُفدى.