بصيرةُ المكفُوفين

حاتم الطائي

"فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ".. تذكّرتُ هذه الآية الكريمة من سورة الحج، أثناء تشرفي برعاية احتفال جمعية النور للمكفوفين بختام فعاليات المركز الصيفي، الذي نظمته الجمعية احتفاءً بهذه الفئة المُبدِعَة؛ ضمن جهودها الحثيثة لتعزيز الأنشطة الاجتماعية والثقافية والمعرفية لهؤلاء المُتميزين الذين حباهم الله ببصيرة نافذة تفوق بمرات عديدة بصر الأشخاص العاديين!

نعم إنه تأكيدٌ رباني من خالقِ هذا الكون، ومُصوِّر إنسانه، على أنَّ العمى وعدم القدرة على رؤية الأشياء، ليست صفة مُلازمة للأبصار؛ بل نعت صريح للقلوب؛ فالقلوب عندما تُصاب بالعمى تُدمِّر كل ما في طريقها، ولا تُقدّم الخير أبدًا لمجتمعها.. لذلك نجد الفارق اللغوي بين البصر والبصيرة، بين الرُّؤية بالعين باعتبارها واحدة من جوارح الإنسان، وبين الرُّؤية القلبية التي تخترق أي غشاوة وتنفذ إلى قلوب الآخرين بكل حب واحترام. هذا الفارق أدركته أيُّما إدراك، عندما اقتربتُ من إخوتنا في جمعية النور للمكفوفين التي يترأس مجلس إدارتها الفنان والمُبدع والمُلحِّن الدكتور رائد بن عبدالحافظ الفارسي، هذا الرجل الذي لم يسمح لأيِّ ظروف خارجة عن إرادته أن تُعيقه عن تحقيق النجاح، ولا لأن تحول بينه وبين أي رغبة حقيقية في الإنجاز. ففي ذلك اليوم الذي شهد حفل ختام المركز الصيفي للجمعية، استقبلني الدكتور رائد الفارسي بابتسامة صادقة وترحيب حار، وجدتُه يسير على هدى بصيرته، ويمضي في طريقه بخطوات ثابتة تعكس ثقته في ذاته، وقدرته على مُجابهة أي تحدٍ قد يعترض مساره.

ليس ذلك وحسب؛ بل وجدتُ في الدكتور رائد ذلك الحس المُرهف والذكاء المُتقد والإبداع اللامحدود، كيف لا وهو الذي لحَّن العديد من الأغاني الوطنية والموسيقى التصويرية لأشهر المسلسلات الدرامية، فهو الذي لحّن مثلًا "أوبريت المجد العظيم" لشرطة عُمان السلطانية، وهو مُلحّن موسيقى البداية والنهاية (التتر) لمسلسل "ورد وشوك" ومسلسل "اليرام"، علاوة على تأليف وتلحين الموسيقى التصويرية لأفلام وثائقية مختلفة مثل الفيلم الوثائقي "عُمان أرض الجمال"، وفيلم "الصيد في عُمان"، إلى جانب أعمال أخرى؛ حيث لمع اسمه في سماء التلحين الموسيقي العُماني. والدكتور رائد عندما تجالسه تكتشف عمق ثقافته ومعرفته ووعيه، خاصة وأنه يملك بصيرة قوية تجعله يقرأ القلوب ويفهم نبضاتها، وكأنَّ كل دقة وكل خفقة تقول كلمةً يستطيع ترجمتها في عقله وفهم معانيها.

هذه الطاقة الإيجابية العجيبة التي لمستها في حفل جمعية النور للمكفوفين، أكدت لي بيت الشعر الشهير لإيليا أبو ماضي عندما قال: "ليس الكفيف الذي أمسى بلا بصر // إنِّي أرى من ذوي الأبصار عُميانًا"، وهو بيت يتوازى في المعنى مع الآية 46 من سورة الحج التي ذكرتُها في مستهل المقال؛ إذ يتضح لنا جميعًا أن عمى العين لا يمنع الكفيف من رؤية الناس من حوله؛ بل إنه أشد قدرة على رؤيتهم مُقارنة بالمُبصرين. وهذا يقودنا إلى معانٍ أكثر عمقًا حول طبيعة الإبداع لدى المكفوفين، فهؤلاء يتمتعون بقدرة إبداعية مُدهشة، ولديهم القدرة على تنمية مهاراتهم بصورة تفوق غيرهم. لقد روى الدكتور رائد الفارسي قصة أحد المكفوفين الذي بدأ يتلقى التدريب والتأهيل في الجمعية، وأخبرني بما دار في اليوم الأول لقدوم هذا الطالب؛ حيث أخبر الدكتور رائد والد الطالب الكفيف بأن يترك الطالب يأتي إلى الجمعية بمفرده، وكذلك يعود بمفرده! فما كان من الأب إلا أن استجاب، واستطاع هذا الطالب بعد أول يومٍ دوام في الجمعية أن يتحرك بمفرده دون الاعتماد على أيٍ من أفراد عائلته! وهذا ملمح بسيط من قصة الطالب، لكنه يُبرهن على طبيعة الإرادة لدى المكفوفين وقدرتهم على التأقلم مع ظروف الحياة بل والإبداع فيها.

الحقيقة أنَّ الحديث عن المكفوفين في عُمان يقودنا بالضرورة إلى تسليط الضوء على العباقرة العُمانيين من فئة المكفوفين، والذين- رغم إصابتهم بالعمى- إلا أنهم أضاؤوا الدرب للسائرين خلفهم والمُهتدين بنورهم.. وفي مُقدمة هؤلاء النوابغ يأتي شمس العصر العلّامة نور الدين السالمي صاحب "تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان" و"رسالة في التوحيد" وغيرهما الكثير من المؤلفات الخالدة التي نهل منها طلاب العلم في كل زمان.

ومن الأعلام أيضًا الشيخ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي النزوي، والذي امتلك بصيرة نافذة عوّضته عن البصر، وقد اشتهر بعلمه الغزير وقدرته على تقديم الشروح السهلة لطلبة العلم، وقد نشر العلم عبر أثير إذاعة سلطنة عُمان ومن خلال المنابر المختلفة في عصرنا الحديث. وهناك الشيخ حمود بن حمد الصوافي، هذا العالم الورع التقي، الذي صال وجال في دروب العلم والدين، فكان له الفضل العظيم في تعميق الفهم والوعي الديني في المجتمع. والقائمة تطول، إذ إنَّ عُمان تزخر بالعديد من أصحاب البصيرة النافذة الذين كُف بصرهم في سن صغيرة أو وُلِدوا مكفوفي البصر، لكن لم يمنعهم ذلك من تبصُّرالدنيا بقلوبهم وجوارحهم، فأتقنوا تخصصاتهم وأبدعوا فيها وساهموا في تطويرها.

ولذلك يتعين على مختلف مكوّنات مجتمعنا أن تتعاون فيما بينها من أجل تقديم المزيد من الاهتمام والدعم لفئة المكفوفين، ليس لأنهم غير قادرين؛ بل لكي نساعدهم على مضاعفة إبداعاتهم وتهيئة المجال لهم لخدمة المجتمع على النحو الأمثل. نأمل في هذا السياق أن نرى تشريعات وقرارات حكومية داعمة لهؤلاء الأبطال، نُريد قانونًا يمنح الكفيف المزيد من الحقوق وخاصة تلك المتعلقة بالأهلية واكتمالها، وكذلك توسيع أنشطة جمعية النور للمكفوفين، من خلال زيادة الدعم المالي المقدم لها، وإسهام القطاع الخاص في دعم هذه الجمعية بالموارد التي تُعينها على الوصول لكل المكفوفين في أنحاء عُمان. أيضًا يجب أن نعمل على تغيير الصورة الذهنية للكفيف على أنه غير قادر على ممارسة العديد من المهام، وهنا نناشد القطاع الخاص على تحديد نسبة جيدة من العاملين من أجل المكفوفين، خاصة وأنهم قادرون على ممارسة العديد من الوظائف. وأخيرًا نأمل أن تُخصص فعالية سنوية ترعاها الدولة للاحتفاء بأصحاب المواهب الخاصة من فئة المكفوفين.

ويبقى القول.. إنَّ البصر وهو نعمة كبيرة، لا يُساوي شيئًا إذا ما فقد المرءُ بصيرته وقدرته على التعامل مع الآخرين بصدق وإخلاص، بينما البصيرة تعادل ألف عين وعين، فكونوا أصحاب بصيرة، وسيروا في هذه الدنيا بهديْ قلوبكم لا أبصاركم؛ فالمرء رُبما يكون مُبصرًا في الدنيا لكنه أعمى عن أداء الواجبات المنوطة به، وأعمى عن رؤية الحقيقة وإنْ كانت ساطعة مثل شمس النهار.. "أَفَلا تُبْصِرُونَ"؟!