قطار التفاهات.. إلى أين؟

 

مصطفى عبد المولى **

 

من شرف بعض المعاني أنها لا تُدرك إلا بالتجربة، ولا تذاق إلا بالمُعاناة وليس بالبيان أو الكلام، هذا ما نراه الآن واضحًا جليًا في بعض المجتمعات ولدى كثير من الأفراد الذين يتسابقون في الالتحاق بقطار التفاهات الذي صار من أكثر القطارات سرعة وأشدها انطلاقًا وأكثرها ازدحامًا حتى بات جليًا أننا نعاني من تفكك الأسر وتشرذمها وانحلال العلاقات وانحسارها وتمييع القيم الأصيلة، والتعدي على الثوابت الاجتماعية والدينية، وتشويه القدوات الحقيقية، ومحاولات تهميش كل ماهو نافع للمُجتمع؛ بسبب تلك التجارب التي كانت ولا زالت بلا ضابط أو رادع.

فقد صارت تلك القطارات تصدّر الإسفاف والابتذال والتفاهات والغث والإيحاءات المخجلة والمحتويات الرخيصة والأفكار السطحية والقدوات التافهة الهدامة والمعاني المنحرفة الساذجة والآراء الشاذة الدخيلة على ثقافتنا الأصيلة السوية كل ذلك باسم "الحرية" وباتت لها مسارات للانتشار الفوري عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغير الاجتماعي نتيجة هذه الطفرة التكنولوجية التي غزت بيوتنا جميعًا؛ إذ صارت مجتمعاتنا تعاني أشد المُعاناة في كافة الجوانب، سواء التعليمية أو الأسرية أوالاجتماعية أو الشخصية، هذه المُعاناة لم تكن وليدة الصدفة، بل هي نتيجة من نتائج انتكاس الفطرة وانحدار القيم وغياب الضمير المهني والأخلاقي عند الكثيرين مُتعدين على حرمة المجتمع- إن جاز التعبير- نعم؛ فللمجتمع حرمته، هذه الحرمة هي ثوابته القيمية وأخلاقياته الإنسانية.

مَن كان منَّا يصدّق أن انتكاس الفطرة وانحدار القيم وتردي الأخلاق والهرولة وراء الشذوذ الفكري وسخافة الرأي وتضييع ثروة الوقت صار أمرًا يتنافس على فعله المتنافسون لدى كثير ممن انحرفت فطرتهم وانتكست قيمهم وماتت مروءتهم واختل شرفهم، وتأنثت رجولتهم، وانفلتت غرائزهم فصاروا كالأنعام؛ بل هم أضل، ليس هذا فحسب، إنما أصبح المتابعون والمشجعون لهم بالملايين سواء بالمشاهدات أو الدعم أو محاولات التقليد لهم!

لا شك أن أكبر انهيار لأي مجتمع هو الانهيار الأخلاقي، ذلك الداء الفتاك الذي إذا تمكن من أي مجتمع انتهى أمره، وصدق شوقي منذ عشرات السنين عندما صرخ قائلاً:

وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم  *  فأقمْ عليهم مأتمًا وعويلًا

إنَّ منظومة القيم لديننا الحنيف هي أفضل المنظومات التي تحمي بني البشر شكلًا ومضمونًا؛ لأنها بكل بساطة من صنع إله عالمٍ بسيكولوجية خلقه، وعالم بأسرار تلك النفس البشرية التي سوّاها. هذه المنظومة هي التي جعلت كثيرًا من مجتمعاتنا العربية قائمة حتى الآن، ومستمرة؛ كالصخرة التي تتحطم عليها كل أصفاد الجهالة وموجات الانحلال والفساد والإفساد، وتتكسر عليها معاول الشر والانحلال.

إن تقدم أي مجتمع في كافة المجالات مرهون الآن بمدى قوة وتحمّل منظومة قيمه لتلك الهجمات الشرسة ومحاولات الهدم لكل ما هو نافع ومفيد لهذا المجتمع. ولكن يبقى السؤال: إلى متى ستستمر قوة تلك المنظومة بهذا الأداء في مواجهة قطارات الهدم والتفاهات؟ أليس من الأجدر أن نحمي تلك المنظومة ونقيها شر تلك المؤثرات ونصنع لها ترسانة أخلاقية تحمي عقول شبابنا وغرائز نشئنا؟

ويعد التعليم من أول أدوات حماية المنظومة القيمية والحفاظ على ثوابت مجتمعاتنا الأصيلة، ذلك هو المسار الخطير والدواء الأول والأخير.

 والتعليم المقصود هو ذلك الذي يبقى أثره سلوكًا وواقعًا، المستدامة نتائجه، لا الذي ينتهي عند آخر دقيقة في ورقة الامتحان، ذلك التعليم الذي يهدف إلى قدح الشرارة وليس ملء الوعاء

التعليم من أجل الحياة، الذي ينمّي مهارة أو يفتش عنها، أو حتى يخلقها من جديد، ذلك الذي يرسخ قيمة أخلاقية ويجعلها سلوكًا في نفس المتعلم، فكلما كانت البئر عميقة كان الماء أنقى وأعذب.

وقد وعى كثير من واضعي المناهج تلك المعادلة، وبدأت تتحقق في بعض المناهج الدراسية، وأدعوهم إلى الاستمرار والتعرف على كافة احتياجات الطلبة الأكاديمية والمعرفية والمهارية والنفسية عن طريق استنفار طاقات المعلم والمتعلم بعقد حلقات نقاش متعددة وطرح كافة الآراء والأفكار وتفعيل خطوط ساخنة للتواصل المستمر للخروج بأفضل رؤية تخدم تنمية المهارات والابتكارات واكتشاف الموهوبين والمبدعين في كل المجالات كل ذلك محاط بسياج أخلاقي يعزز القيم الأصيلة وثوابت الدين مقدرًا القدوات الحقيقية داعمًا لها ولدورها مشجعًا للأفكار السوية داعيًا لظهورها وتأثيرها ضد قطار التفاهات الآثم ، ملبيا لصوت الضمير الأخلاقي الحي أن يستعيد دوره ليبقى هو الرقيب الأول والأخير لكل حركات المجتمع

يتبقى الطرف الآخر من تنفيذ معادلة التعليم النوعي ألا وهو المعلم، الذي ينبغي أن توضع له خطة تطويرية مهنية تتناسب مع التطوير الحادث في المناهج، وإلا فما الجدوى من بقاء المعلم كما هو بكل طرقه التقليدية واستراتيجياته النمطية، في حين أن بقية محاور العملية التعليمية في تغيير وتطوير.

وأرى أن هذا العمل الذي نسعى إليه هو مسؤولية الجميع، من وزارة ومديريات وإدارات مدارس ومعلمين، فلابد من التطوير الذاتي، وعلى كل معلم واعٍ أن يراعي مستجدات التطوير، وأن يضع لنفسه خطة يمكن قياس أهدافها، آخذًا في اعتباره الثوابت المجتمعية والآليات الجديدة التي يمكن أن تؤتي بثمارها مع المتعلمين.

تلك هي الأداة الأخطر والأجدى في حماية أخلاقياتنا وإنقاذ مجتمعاتنا من براثن هذا القطار العاتي الذي أخذ يدهس كل ما هو فطري ونافع وثابت، تاركًا لنا الغث والمسخ سواء في الشكل أو المضمون.

فلنتمسك بفطرتنا النظيفة السليمة، فقد جُبل الإنسان السويّ على الفطرة السليمة وكل ما هو ملائم لآدميته، سواء كان دينه أو معتقده أو بيئته أو لونه، يقول الله تعالى: "فأَقِمْ وَجْهَكَ للدِينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عَلَيهَا لا تبديلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلَكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".

ولعل من جسد ذلك المعنى الشاعر الجاهلي عندما قال:

وأغضّ الطرف إن بدت لي جارتي * حتى يواري جارتي مأواها

فكما أن لكل دولة منظومة دفاع عن أراضيها وأمنها ومجالها الجوي والبحري، فلابد أن تكون لدينا منظومة دفاع كبرى لحماية قيمنا وعاداتنا وهويتنا العربية والإسلامية، وأول أساطيل الدفاع هو أسطول التعليم النوعي الباقي أثره القادح للشرارة والمنظومة الأخلاقية التي بمثابة جهاز المناعة الحقيقى ضد اي ابتذال أو إسفاف.

فلا يتكاسل أحد منا أو يبخل بكلمة بناءة أو فعل ذي أثر يعود بالخير والرفعة. ولنتوشح بوشاح آدميتنا ونتوسد بالإيمان ونتضوع بطيب الأخلاق وشذاها ولنحذر جميعاً من انتكاس الفطرة الآدمية أو انحدار السجية أو تراجع القيم واختلال المفاهيم وترك الأولويات.

فهذا كله من علامات ضياع وانهيار المجتمعات، فيُرى الحق باطلًا والباطل حقًا والقبح حسنًا والحسن قبحًا، والحلال حرامًا والحرام حلالًا ، والدياثة رجولة، ويصبح فاحش القول والفعل حرية، والمسخ سوية وكمالا، وتقديم وتقدير القدوات التافهة والمبتذلين والمسفين والمفلسين لغة وفكرًا والمنتسبين للفن والثقافة زورًا وبهتانًا تجديدًا وانفتاحًا، ساعتها سنقيم مأتمًا وعويلًا، ولن يعزينا أحد، بعد أن نُقتل بالحرير لا بالحديد.

وهذا لن يحدث إن شاء الله تعالى، ما دمنا جميعًا قائمين على منظومة الدفاع الأخلاقية، نزود عن مجتمعاتنا وشبابنا ونسائنا، بترسيخ جذورها حتى تزهر أغصانها وتسمو هاماتها لخدمة هذا الوطن المعطاء الذي يستحق منَّا كل جهد لحمايته.

** معلم لغة عربية بمدرسة أحمد بن ماجد الدولية الخاصة

تعليق عبر الفيس بوك