الأداء الحكومي والتعافي الاقتصادي

حاتم الطائي

ضرورة تسريع وتيرة تنفيذ المشروعات ومواصلة التحفيز الاقتصادي

ضخ المزيد من الاستثمارات المحلية يزيد من فرص العمل

نأمل قرارات غير تقليدية لتسهيل إقراض القطاع الخاص ودعم تعميق الاقتصاد

منذ أن شرعت عُمان في مرحلة التعافي الاقتصادي من التبعات السلبية التي خلّفتها الأزمة المُزدوجة (كورونا وانهيار أسعار النفط)، والجهود تتواصل من أجل تحقيق الانتعاش المقصود، خاصةً وأنَّ مرحلة الخروج من عُنق الزجاجة لم تتحقق سوى بنهاية الربع الثاني من 2022، عندما بدأت أسعار النفط الارتفاع والعودة لمستويات ما قبل 2020، علاوة على رفع مختلف دول العالم كافة القيود التي فرضتها جائحة "كورونا"، وتسبَّبت في تعطُّل سلاسل الإمداد والتوريد، وتضرُّر خطوط الملاحة التجارية.

وتدريجيًا بدأت الاستثمارات تستعيد نشاطها، باحثة عن الملاذات الآمنة التي يمكنها توفير عائدات إيجابية، وما لبثت أن تتنفس الصعداء، حتى تفجّرت أزمة التضخم والارتفاع الشديد في الأسعار بمُختلف أنحاء العالم، وفاقم من الوضع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثر تجارة الحبوب والنفط في العالم، فتضاعفت مؤشرات التضخم في العالم، ووصل الحال ببعض الدول إلى تسجيل "تضخم مفرط"، إضافة إلى ظهور "الركود التضخمي" فيما بعد. وتعمقت الأزمة مع بدء الاحتياطي الفيدرلي (البنك المركزي) الأمريكي خطته لرفع أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي، وتبعه في ذلك جميع البنوك المركزية حول العالم.

لكن ومنذ الربع الثاني من العام الجاري (2023)، ووتيرة رفع أسعار الفائدة سجَّلت تراجعًا ملحوظًا، وبدأت الاستثمارات تتدفق من مختلف الأسواق، وعاد الاهتمام مرةً أخرى بالأسواق الناشئة، ما عزَّز الآمال في تحقيق تعافٍ اقتصادي على المدى القريب. وتزامن مع ذلك، مُواصلة الحكومة إطلاق حُزم جذب الاستثمارات وتسهيل الإجراءات، لكن الشاهد ومنذ قرابة 4 أشهر حالة من الركود في الأداء العام للمؤسسات، وهي حالة ليست بجديدة؛ إذ عادةً ما يُصاحب فصل الصيف وموسم الإجازات تلك الحالة من الركود في الأنشطة الحكومية والاقتصادية. غير أنه في واقع الأمر، بات على مختلف مؤسسات العامة والخاصة أن تُغيِّر هذا التوجُّه، وعلينا جميعًا هيئات ومؤسسات وأفرادا أن نتخلى عن حالة التراخي في الأداء واللجوء إلى "المناطق المريحة" في حياتنا؛ باعتبار أنَّ هذا جزء من وتيرة الحياة والعمل في عُمان ودول الخليج. لقد بات من الضرورة بمكان أن نتحلى بروح وثّابة تتطلع دائمًا إلى تحقيق انتصارات مُتواصلة، دون توقُّف، وأن نعمل جاهدين على ضمان ديمومة العمل مهما كانت الظروف؛ فأوضاعنا الاقتصادية تستلزم المزيد والمزيد من العمل المُضني والمُستمر، لا أن نركن إلى ظروف مُؤقتة تجعلنا فقط نعمل 7-9 أشهر في السنة!

ومن هنا نقول بوضوح إن الإجراءات الحكومية لتنشيط الاقتصاد ما زالت دون المأمول، وثمَّة حاجة مُلحّة من أجل دفع جهود التعافي الاقتصادي إلى الأمام، من خلال اتخاذ عدد من الخطوات الفعّالة، وفي المقدمة منها: أولًا: الاستفادة من الفوائض المالية على النحو الأمثل، من خلال تعظيم الاستثمارات الحكومية في المشاريع التنموية، وتعزيز المحفظة الاستثمارية لجهاز الاستثمار العُماني، من أجل ضخ المزيد من السيولة في مشاريع محلية، لا سيما في القطاعات الواعدة مثل السياحة، والقطاعات المولِّدة لفرص العمل. ثانيًا: تعزيز القدرة الإقراضية لبنك التنمية العُماني وتسهيل الإجراءات؛ إذ إنَّ زيادة القروض المُيّسرة من شأنها أن تدعم نمو مشاريع نوعية، خاصة في القطاع الصناعي، وهو قطاع قادر على توفير فرص عمل مُتعددة للشباب؛ سواءً في العمليات الإنتاجية أو الخدمات اللوجستية المُرتبطة. علاوة على دور مثل هذه التسهيلات الائتمانية في دعم جهود توسيع القاعدة الاقتصادية، وهو دور لن يستطيع القطاع الخاص القيام به دون هذه القروض المُيّسرة، وبالإمكان إطلاق برنامج تمويلي خاص لدعم القطاع الخاص، بنسب فائدة لا تتعدى 3%.

ثالثًا: الحرص المستمر على تطوير الاستراتيجيات وخطط جذب الاستثمارات، من خلال مُواكبة المُستجدات، لا سيما مع اشتداد المنافسة الإقليمية على التدفقات الرأسمالية. رابعًا: الاستفادة من التطورات الاقتصادية، مثل الاكتتابات العامة في بورصة مسقط، والتي ستشهد دفعة كبرى مع طرح أسهم شركة أوكيو لشبكات الغاز، ومن ثم مواصلة برنامج الطروحات الأولية للشركات المملوكة للحكومة، بما يُساعد على تعزيز الاستثمارات وفتح آفاق جديدة للنمو الاقتصادي. خامسًا: مواصلة جهود تقديم التسهيلات للمستثمرين والتوسع في المشاريع القائمة على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبلورة رؤية واضحة الأهداف ومُحددة النتائج للاستثمارات الأجنبية.

والتعافي الاقتصادي المنشود ينطلق أيضًا من الارتكاز على الميزات الاستراتيجية الفريدة التي تتمتع بها المناطق الحرة والاقتصادية والخاصة، وعلى رأسها المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، فهذه ينبغي أن تكون بوابتنا نحو الانطلاقة الحقيقية للاستثمارات العابرة للحدود، فلا يكفي أن نجذب استثمارات من الدول الإقليمية؛ بل يجب أن نستهدف استثمارات الدول العظمى شرقًا وغربًا، وأن نُرسّخ مفهوم المنطقة الحرّة في مثل هذه المواقع، فشروط التعمين والتوطين والاشتراطات التي قد تكون مطلوبة في المواقع التقليدية، لا ينبغي أن نفرضها على مستثمر أجنبي في بداية عمله، وأن نمنحه فرصة لا تقل عن 5-7 سنوات. إلى جانب التطبيق الشامل لميزات المناطق الحرة، خاصة فيما يتعلق بتأشيرات الدخول؛ إذ يمكن إتاحة الدخول بتأشيرات عند الوصول فقط مع دفع رسوم جيدة، وهو ما سيُساعد في تعزيز التدفقات السياحية، لا سيما وأن شاطئ الدقم يُعد واحدًا من أجمل الشواطئ العُمانية قاطبةً.

الاستثمار يتطلب دائمًا قرارات جريئة ومسؤولين قادرين على البت سريعًا في مشاريع الاستثمار؛ لأنَّ كل يوم يمر تذهب الاستثمارات إلى مواقع أخرى حول العالم، ونحن في عُمان نملك كافة المقومات، لكن ربما نحتاج إلى مزيد من الترويج واقتناص الفرص. ويحضرني في هذا السياق مشروع بنك الاستثمار العُماني الذي وافق عليه مجلس محافظي البنك المركزي العُماني في يونيو الماضي، لكننا حتى الآن لم نقرأ عن أي خطوات ملموسة أو إجراءات تتعلق بطبيعة عمل البنك أو موعد بدء أنشطته، ومجالات تخصصه.

الاقتصادات العالمية الآن تُسابق الزمن من أجل ضمان مكانة لها في المستقبل في ظل الأزمات المتلاحقة والتداعيات الاقتصادية الأخيرة، وقد بات التوجه حاليًا نحو التكتلات الاقتصادية، وآخرها مجموعة بريكس التي توسعت من كونها مجموعة اقتصادية تضم 5 دول إلى تحالف اقتصادي يجمع تحت مظلته 11 دولة، منها 3 دول عربية، ونحن هنا في مجلس التعاون الخليجي نمثل تكتلًا اقتصاديًا وسياسيًا مؤثرًا، لكن ثمة خطوات يجب الإسراع فيها مثل الاتحاد الجمركي وتعزيز المشاريع الخليجية المشتركة، وتوجيه الأموال الخليجية إلى الدول الأعضاء بدلًا من إنفاقها خارجه.

ويبقى القول.. إنَّ قضايا الاستثمار والتعافي الاقتصادي تحتل صدارة الاهتمامات الحكومية، لكن ما زلنا نؤكد أنَّ وتيرة التقدم في هذا الجانب أقل من المعدل المأمول، وعليه فإنَّ الشروع في إجراءات عملية وبنّاءة تتعاطى مع المُستجدات أمر حتمي ولا مناص منه.