هل حانت حقبة الشورى المُلزِمة؟

 

د. عبدالله باحجاج

تُسَن الدساتير والأنظمة الأساسية- التي بمثابة دساتير- من أجل عقلنة المعترك الحكومي، وتبرُز أهمية هذه العقلنة عندما تتبنى الحكومات الجبايات/ الضرائب والرسوم؛ كمصادر دخل لميزانياتها، وتفرضها بصورة أحادية- أي منفردة- على المجتمعات، عندها تبرز قضية التشاركية في صياغة التشريعات وتفعيل الأدوات الرقابية المُستقلة؛ إذ لا يمكن للحكومات أن تستفرد بذلك، لتحصيل الأموال من المواطنين، وتفرضها عليهم، فلا بُد من التشاركية لدواعي العدالة والقبول الاجتماعي، وما لها من انعكاسات على مستقبل الاستقرار الاجتماعي على وجه الخصوص.

ومن هذه المقدمة يُقاس مدى وحجم مسار تطور الديمقراطية في بلادنا، وطبيعة التطور ينبغي أن تحكمه ماهية المُتغيِّر الجوهري في دور الحكومة منذ بدء السياسات المالية الجديدة، وتبني نظام الجبايات، وهو توجه استراتيجي؛ أي بعيد المدى، يُؤسس مرحلتنا المالية المستدامة. وقد كانت الأزمتان السابقتان: النفطية وكورونا، سببًا لتطبيقه؛ بل ولانطلاقة مفاهيم جديدة مثل: الاستدامة المالية لميزانية الدولة. ومن بين أهم أدوات تحقيق الاستدامة المالية: إقامة منظومة متكاملة من الضرائب، وفرض الرسوم وزيادتها، وكذلك، تقليل تدخُّل الميزانية العامة للدولة في إيرادات المُحافظات، وفتح الأبواب أمام المحافظات لصناعة إيرادات محلية. وهذا يعني أن دخول المواطنين قد أصبحت مصدر دخل لميزانية الدولة وميزانية المحافظات، تستهدفها بصورة غير مسبوقة، في ظل تراجع الدخول؛ نتيجة لأسباب التقاعد أو الرفع الجزئي للدعم الحكومي عن خدمات أساسية مثل الكهرباء والمياه.. إلخ.

هنا سنرسم صورة أقرب للواقع لإيرادات الميزانية العامة للدولة، وميزانية المحافظات حتى نقف عند حجم الأعباء التي أصبح المواطنون يعانون منها، وتُسمع صرخات البعض تتعالى يوميًا، وتتصاعد مصادرها فرادى وجماعات، والحكومة صامتة.. لكن؛ إلى متى؟!

أولًا: الإيرادات الحكومية، وأبرزها: ضريبة الدخل على الشركات، والرسوم العقارية، وضريبة القيمة المضافة، والضريبة الانتقائية، والترشيد المُتحقق من الرفع الجزئي للدعم عن الوقود وعن الكهرباء والمياه، والرسوم الجمركية، وعائدات الاستثمارات الحكومية، وقبل كل ذلك عائدات النفط والغاز التي ما زالت تُمثل الجزء الأكبر من الإيرادات العامة.

ثانيًا: إيرادات المحافظات وتتمثل في: المُخصصات المالية من الحكومة، والرسوم، وعائدات الاستثمارات.

هكذا تكون خطة التوازن المالي (2021- 2024) قد حققت النسبة الكبرى من استهدافاتها الجبائية، ونتوقع تطبيق ضريبة الدخل على الأفراد في آخر سنوات هذه الخطة (أي في 2024)، أثناء الفترة العاشرة لمجلس الشورى التي تجري استعدادات الآن لانتخاب أعضائها. وخارطة الضرائب والرسوم بذلك الحجم لم تبدأ إلّا منذ ثلاث سنوات فقط، وهذا يعكس لنا فعلًا حجم الأعباء الاجتماعية، فإلى متى سيحمل المجتمع هذه الأعباء؟ وهل سيحق لأعضاء مجلس الشورى رفض ضريبة الدخل على الأفراد؟ أو إجراء تعديلات جوهرية عليها؟ وهذا لا يعني أننا ضد هذه الضريبة من حيث المبدأ، وإنما نطرح الفكرة للاقتراب من دور مجلس الشورى في مراقبة المعترك / الميدان الحكومي؛ فالضريبة يُمكن أن تحقق العدالة الاجتماعية، إذا ما استهدفت الدخول المرتفعة، ويمكن أن تُغني عن سياسات مالية أخرى مؤثرة على المجتمع.

وقضية مراقبة المعترك الحكومي تكتسب أهميتها من عدة اعتبارات؛ مثل: ما اتخذته بعض الجهات الحكومية ليس في المجال المالي فحسب، وإنما في مسارات غير محسوبة النتائج، مثل فتح أبواب البلاد أمام دخول استثمارات متعددة الجنسيات؛ في تحوُّل دراماتيكي لكل محاذير خمسة عقود مضت، فقد جنح المسار المالي كثيرًا، وأصبح يُنظر للاستثمارات الأجنبية كمصدر من مصادر الدخل لرفد موازنتي "الدولة والمحافظات"، بالإيرادات في صورة ضرائب أو رسوم؛ دون أن تُحسب تداعياتها الأمنية والسياسية والاجتماعية مستقبلًا، ودون أن تنعكس على تطوير الخدمات الحكومية، وكذلك دراسة تجربة الانفتاح الاستثماري مع دول ذات أطماع جيوسياسية وفكرية تاريخية لا يمكن التخلي عنها بهذه السهولة.. إلخ.

هناك عدة اعتبارات أخرى تستدعي تبني النهج التشاركي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية (أي الشورى)؛ مثل تأثر الطبقة المتوسطة بسياسات مالية مباشرة وغير مباشرة؛ مما قد ينجم عنها المساس بجوهر المواطنة، والتي هي ضمانة الاستقرار؛ ولأنها أهم أسلحة المواجهة الداخلية والخارجية. وأيُ حالة عقلانية سنخرج منها بنتائج فورية مباشرة إذا ما حلَّلنا نتائج/ تداعيات مجموعة سياسات مالية- منها ما أشرنا إليها سابقًا- وربطناها بعملية انفتاح البلاد على الاستثمارات الخارجية؛ سواءً على مستوى الأفراد أو الأنظمة، فإننا قد نكون عرضة لاختراقات أجنبية، مع إيماننا بأن الأطماع التاريخية؛ سواء الفكرية أو الأيديولوجية الإقليمية لم تنتهِ، وإنما ربما دخلت في حقبة التكتيكات المرحلية.

ومن كل ما تقدم، تظهر لنا الحاجة الماسّة لتوسيع وتفعيل صلاحيات مجلس الشورى، فليس من العقلانية الوطنية أن يُترك كل وزير يرسم ويُخطط وينفِّذ لوحده مُستفردًا بالقرار، ولا بُد من مساءلته كلما تقضي الضرورة، ولا بُد من أن يكون لنتائج المساءلة مآلات ملموسة.. وحتى لو كان وراء القرار منظومة وزارية حاكمة لقرارات الوزراء، فمن الحكمة، تطبيق التشاركية، عوضًا أن تستفرد المنظومة الوزارية بالقرارات؟ وهي هنا أحد الفاعلين الأساسيين داخل الدولة؛ لأنها تمثل السُلطة التنفيذية، ومن ثم لا بُد من انعكاسات على مستقبل السلطة التنفيذية بعد هذه المساءلة.

ومجلس الشورى فاعل أساسي آخر يمثل المجتمع، ولا بُد من تمكينه من الفاعلية ما يجعله يُعبِّر عن مصالح المُجتمع والدولة على قدم المساواة مع الجهاز التنفيذي، وبذلك تتكامل المفاهيم والمصالح دون طغيان فاعل على آخر؛ فلدى الدولة استراتيجيات كبرى لا بُد أن تُحققها في آجال زمنية متوسطة المدى وبعيد المدى، فمثلًا: تكوين بناء جيل تقني ومهني للاقتصاد العماني الجديد، مثل الهيدروجين الأخضر، والطائرات المسيرة، والفضاء الخارجي.. إلخ، يستدعي ضرورة تطوير الأدوات الرقابية لمجلس الشورى حتى نضمن نجاح الفاعل الحكومي في تحقيق الأجندات الوطنية في تواقيتها الزمنية، فأي فشل- لا قدَّر الله- لن يكتب لبلادنا التنافسية الإقليمية الآمنة.

فهل ستشهد الفترة العاشرة لمجلس الشورى نقلة تاريخية في صلاحيته التشريعية والرقابية للدواعي الوطنية الداخلية والإقليمية سالفة الذكر؟