لا تُعوِّد نفسك بالبقاء في مؤخرة الصفوف

 

محفوظ بن راشد الشبلي

mahfood97739677@gmail.com

يتطبّع بعض البشر على عادة البقاء على منهج بعيد عن دائرة الضوء، فتجده يتملّص عن التواجد مع جَمع الناس ويكتفي بالمراقبة عليهم من بعيد، وهي ثقافة أصبح الكثيرون يتطبعون عليها في غرابة وعلامة استفهام تحيط بهم، فتجدهم في المجالس يبقون في الزاوية البعيدة عن الرجال؛ كي لا يراهم أحد، هذا إن تواجدوا أصلًا في مجالس الرجال.

وكذلك الحال في قاعة المحاضرات والندوات، تجدهم في آخر مقاعد الحضور كي ينأوا عن رؤية الباقين وهو حالهم عند حضورهم للصلاة في المساجد تجدهم ينعطفون مُباشرة لليمين أو يسار قاعة الصلاة عند دخولهم ويجلسون في آخر زاوية في خلفية المسجد مطأطئين برؤوسهم وكأنهم يخجلون من بقية المصلين، ويمكثون في أماكنهم عند إقامة الإمام للصلاة حتى تكتمل الصفوف الأمامية، ثم يقومون متثاقلين ويقفون في مؤخرة الصفوف وعند تسليم الإمام يهرعون للهروب مباشرة من المسجد، كي لا يقابلهم أحد أو يُحادثهم أو يُسلم عليهم. وكذلك الحال عند تواجدهم في الأماكن العامة عند رؤيتهم لشخصٍ يعرفونه، تجدهم يلوذون عنه بعيدًا؛ كي لا يُقابلونه أو يُحادثونه وإن لقِيَهم أحد صدفة وسلّم عليهم تجدهم يسلّمون عليه سريعًا ويلوذون عنه سريعًا كما يلوذ الثعلب ويعيشون في حالة نفور دائم من البشر وسريرتهم تخفي الكثير من علامات الاستفهام نحو الخنوع والخضوع الخَفِي في نفوسهم الغريبة والعجيبة.

ولو عدنا لمرجعيات علم النفس في تكوين الشخصيات البشرية، فإن تلك الفئة من البشر تجدهم من ضعيفي الشخصية المُتعمّدة؛ أي أنهم يتعمّدون امتهان شخصياتهم والنزول بها للخضوع والخنوع رغم إنهم أسوياء مع أقرانهم، ولكنهم يتعمدون البقاء في دائرة الفئة البعيدة عن مواجهة البشر، وأغلب تلك الفئة كما أشار لهم ووصفوهم علماء النفس بأنهم كثيري افتعال الأخطاء الخفية والتي لا يُحبون للغير معرفتها عنهم، وثانيًا إحساسهم بنقص مُعين في ذاتهم فتجدهم يُغيّرون ويُبدّلون كثيرّا في شكلهم أو في لبسهم أو في حديثهم ولا يُؤمنون بالنهج السوي الذي تربوا وتطبعوا عليه ويتعمّدون مُخالفة تلك العادات والتقاليد السوية والسائدة في مجتمعهم.

ولو بحثنا في معارف الدين والوصايا النبوية، لوجدنا أن الإسلام حث على صقل شخصية الرجل المسلم القوية والمتينة والقويمة والصلبة التي يفرضها في نفسه ويتعامل بها مع غيره، ووصّى على الحضور في الجُمعة والجُمعات وعلى مواجهة الناس والمُبادرة بإلقاء التحية والسلام على من تعرف وعلى من لا تعرف، كما أشار نبينا صلوات اللّه وسلامه عليه، وعلى إجابة الدعوة وعلى التساهم أي التقارع والتنافس على الصفوف الأمامية في الصلاة وعلى فرض شخصية الرجل عند مقابلة الرجال وعلى الفصاحة في الحديث وعلى تعلّم أُصول المُعاملات مع الغير والتعامل معهم بطلاقة وبشاشة الوجه وعلى جميل الصحبة وفصاحة الحوار وتبادل الأفكار، والسؤال عن الحال والأحوال وهي جميعها تصقل شخصية الرجل المسلم وتحثّه على الصلابة والتمكين والوقار وفرض شخصيته تجاه الآخرين وهي من صفات النّبَالة والشهامة والمروءة عند العرب من سالف الأزمان، ولم يُحبّذ الدين اللّوذ والاختباء في الخدور كالعذارى من النساء والبُعد عن المواجهة والبقاء في مؤخرة الصفوف، بل وإن طلائع جيوش المسلمين عبر تاريخهم الطويل كانت تتكون من نُبلاء القوم وأقواهم شخصية وشجاعة وهيبة وقد سطّرت كُتب التاريخ سيرتهم وأمجادهم بحروف من ذهب عن بطولاتهم وشهامتهم وشجاعتهم ولم تذكر كتب التاريخ المتخاذلين والمختبئين خلف الصفوف.

خلاصة القول.. إن لم تكن ذا هيبة ووقار فستُستَمعَض وستُستصغَر من قِبل القوم ولن يلقِي لك الآخرون بالا ولن يُقدموك عندما تُقدّمَ الرجال كونك أردت ذلك وابتغيته وطبّعته على نفسك وسلكت به طريق المتخاذلين الفاشلين، فالرجولة يصنعها الشخص لنفسه ويتقدم بها لمشارف المتقدمين المُبادرين، أمّا المتخاذلون الراكنون في مؤخرة الصفوف فلن تجد منهم سوى الخذلان والركاكة، فكن في صفوف المتقدمين أيها الممتهن للتخاذل والخذلان كي تصنع لك شخصية واثقة وحضورا له قيمة ووزن في مجلسك ومجتمعك وبين ناسك ولا تُهن نفسك ببقائها في مؤخرة الصفوف وكُن رجلًا شجاعاً كي يعتمد عليك الرجال ويجعلونك شريكاً لهم في كل حال ومجال، واجعل لكل مقامٍ مقال ولكل مكانٍ حضور وكُن في مُقدمة الرَّكب بجمال أخلاقك وهندامك وبجميل منطقك وحديثك واقرأ وتعلّم وتفقّه لكي تكون فصيح اللسان في ما تُبديه وتتحدث عنه ولتفرض شخصية حضورك بينهم، ولا تهن نفسك فتُستهان ولا تستلين فتُستلان ولا تمل فتُستمال، وكُن كما قال الإمام الشافعي: "كُن رجلًا على الأهوال جلدًا وشيمتك السماحة والوفاءُ يُغطى بالسماحة كل عيبٍ وكم عيبٍ يغطيه السخاءُ"، وانأ بنفسك عن الركون والبقاء في مؤخرة الصفوف وكُن دائمًا في مقدمتها.

تعليق عبر الفيس بوك