د. صالح الفهدي
الأخلاقُ تتغيَّر هذا أُمرٌ مسلَّمٌ به، ولكن إلى أَيِّ اتجاهٍ تتغيَّر هذا هو الأَمرُ الذي يستحقُّ العنايةَ والتَّدبُّر؟! السلبيَّة هي إِحدى ملامح التغيُّر في الأخلاقيات، فما إن يطرح موضوع ما حتى تكشِّرُ السلبيَّةُ وجهها دون تمحيصٍ ودقَّة في الموضوع؛ بل إنها تُقحم إقحامًا.
فإذا كتبتَ في موضوعٍ ما، جاءك من يقلِّلُ من شأنِ ما كتبتَ ويرى أنَّ عليك أن تكتبَ في الجانبِ السلبيَّ الذي يراهُ هو لك، وكأنَّ الحياة ضائقةٌ إلا في منظورِ ما يراه.
وإذا أثنى أحدٌ من خارجِ الوطنِ على جانبٍ من الجوانبِ في الوطن انبرت له الأصواتُ السلبيَّة مكشّرةً أنيابها بأنه لا يرى الحقيقة وأنهم سيبصِّرونه بالحقيقة دون أن يراعوا أن من واجبهم على وطنهم أن يصونوا حرمته، ويحفظوا كرامته، وإن كان لهم من رأي في أمرٍ ما فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقال، وليس مقامه الردُّ على من أثنى عليهم، ومدح صادقًا وطنهم بما رآهُ حسنًا من وجهةِ نظره.
وإلى جانبِ السلبيَّةِ سوءُ الردِّ على الرأي، وذلك ليس من الأدبِ ولا الخُلق، فالرأي حقُّ من حقوق الإِنسان وإشارة إلى حريَّته، لكن أن يكون الرأي سيئَ الأُسلوب، دنيء العبارة، فذلك رأيٌ ينمُّ على ضعفِ التربية، ووضاعة الشخصية، ورداءة الخُلق، هذا فضلًا عن الفراغ الباعث على السلبيَّةِ وسفاهِ الأُسلوب.
مؤشِّر آخر على تغيُّر الأخلاقيات وهو ضيقُ الأُفق في تقدير وجهات نظر الآخرين المخالفة، وقد أصبح ذلك من أسباب انصرام الوشائج الاجتماعية، وانقطاع الروابط الأُسرية.
وإذا كان من ثمَّة قائل أن هذه فئة قليلة لا تمثِّل الفئة الأَغلب فإِن ذلك هو الخطرُ الذي يتغلغل في أوردة المجتمع، فهي لا تظهرُ في وسائل التواصل الأجتماعي وحسب؛ بل إن لها مؤشرات في الواقع، إذا عرفنا أن 92% من فئة طلبة المرحلة المتوسطة- على سبيل المثال- يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي للترفيه وليس للبحث والتعلم، وهُنا نربطُ الأمرين بأنَّ هذه النسبة عالية جدًا وباعثة على القلق لأن الترفيه يعني عدم إشغال النفس بما ينفعها، وهذا هو الفراغ الذي حذَّر منه الحديث الشريف عن نبيَّنا الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام "نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" أي أن أكثر الناس يضيعون هذه النعم لغير فائدة.
الأمر الآخر أن هذه الفئة التي تظهر سلبيتها في وسائل التواصل الاجتماعي تنتشرُ آرائها وتتداول في الوسائط الأخرى، الأمر الذي يجعل أثرها واسعًا مما يسهم في التأثير على الأغلبية الصامتة.
ضعفُ الإيمان وعدم فهم بديهيات الدين هو السبب الرئيس في ضعف الأخلاقيات، وتدنِّيها، فضلًا عن التربية التي أصابها الضرر في جوانبَ شتَّى فأصبحت من الضحايا وقد كان حريَّا بها أن تكون من الركائز الأساسية لبناء شخصية إنسانية سويَّة وقويمة.
حينما قُلت قبل عشرةِ أعوامٍ في إحدى الكليات أنَّ أخلاقياتنا تتعرض للهشاشة والضعف والتآكل، لم يرُق كلامي للضيف الآخر المستضاف معي وكان مسؤولًا حكوميًا بإحدى الجهات المناط عليها واجب الإسهام في تعزيز الأخلاقيات، بيدَ أنه فهم بعد ذلك أن مبعث حديثي كان لغيرةٍ في نفسي على أخلاقياتنا، وحرصًا مني على صيانتها والمحافظة عليها. اليوم وبعد تلك السنين أصبحنا نرى تغيُّر هذه الأخلاقيات إلى وجهٍ لا نرتضيه، وسلوكٍ لا نقبله.
إذا كان لنا- نحن العمانيون- من إرثٍ نفتخرُ به، ومن مجدٍ نتباهى به فتلك هي الأخلاق الرفيعة التي توارثناها أبًا عن جد، فلا عزَّ دونها، ولا مجد غيرها. وأعظم شهادةٍ لنا في ذلك من المصطفى عليه السلام "لو أنك أتيت أهل عمان ما سبُّوك وما ضربوك" وهو النبي الأعظم الذي أثني الله عليه ثناءًا خالدًا بقوله في القرآن الحكيم" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4).
إن الأُمم لا ترتقي في حقيقتها إلا بأخلاقها، وها نحنُ نرى أن الأُمم التي تقدَّمت في علومها وصناعتها تنحسرُ في حضارتها، وتتقلص في وجودها بسبب انهيار الأخلاق، وذلك لنا أعظم درسٍ نراهُ بأمِّ أعيننا، فإن نحن لم نأخذ به أصابتنا أضراره وبلاياه، وإن نحن تعلَّمنا منه وفهمنا أثره ثم قمنا بواجبنا تجاه أخلاقياتنا صنَّاها عن الإندثار، وحميناها عن الإنحسار.
على أَنني دائمًا ما أحذِّر بأَننا لا نولي جانب تعزيز الأخلاقيات اهتمامًا يليقُ بها، وهي أساس وجود أُمتنا، وعنصر قوة لحمتها، ومصدر ثبات نهضتها، وما لم يكن للأمة من نبلاءَ فضلاء يعوون ما يحدقُ به من أخطار فيرسمون له سُبل النجاة من مزالق الإنحدار فإنَّها تتجَّه إلى طريقٍ لا غاية له سوى الإنهيار والضياع.