الباحث عن خلل

 

 

ماجد المرهون

majidalmrhoon@gmail.com

 

يتطور الإنسان منذ خلق والتطور من أسمى صفات تأقلم المخلوقات وعلى رأسها الإنسان بطبيعته بل هو أسرعها لما حباه الخالق من ملكة العقل ومواهب متعددة وقدرةٍ كبيرةٍ على التمييز بين الحق والباطل والاختيار بين الصواب والخطأ والتقدير بين الصالح والفاسد؛ فبعد أن كان الإنسان قديمًا يعتمد على أحاسيسه المجردة وشكوكه في البحث والتقصي عن مسبب أحدث خللاً في نظام حياته المعتاد أو انعكس عليه بالضرر كالجريمة مثلًا، تقدم بعدها خطوة إلى الأمام مع عدم ملاءمة الشكوك والأحاسيس في مسعى التحقيق بالتعاون مع غيره من شركاء المجتمع للكشف عن الملابسات بغية إثبات الدليل والوصول إلى الجاني لمُعاقبته وكفه عن الخطأ والضرر.

وبمرور الوقت وازدياد عدد السكان وتداخل المصالح وتشابكها بطرقٍ أكثر تعقيدًا بات من الضرورة الاستعانة بأطرافٍ ذات تبصر وتأمل في مجال التحقيق ممن يعتقد بحكمتهم، ولذلك لجأوا إلى السحرة والمشعوذين لسرعتهم في اتخاذ القرار وإلقاء الحكم نظير مكسب مادي؛ إذ كانوا يتمتعون بنوعٍ من السلطة القضائية في دائرةٍ يشيع فيها الجهل، ومع اطراد التقدم العلمي قليلًا في العصور الوسطى أصبح "الاعتراف سيد الأدلة" كما يقول أرسطو، هو الدليل الوحيد لإثبات الجرم وكان دور الشهود غير معتد به لما قد يشوب شهادتهم من رغباتٍ وأهواء وميولٍ تؤدي للخطأ في الحكم وعليه بات التعذيب هو مصير كل من يلقى بتهمة، وقد يعترف مكرهًا تحت وطأة التعذيب وإن كان مظلومًا حيث كانت طرق التعذيب وأساليبه أقسى من العقوبة.

يستمر التطور الإنساني لإثبات الخطأ وكشف نقاط الضعف ومواطن الخلل متماشيًا مع مقتضيات الحاجة ويواكبة التطور التقني، إذ لم يعد أسلوب الانتقام المبني على الشك مُعترفًا به ولم تعد الإنسانية اليوم مضطرةً إلى طرائق السحرة والدجالين والتفنن بأساليب التعذيب للتحقق فقد حلت المنهجية العلمية للتحقيق محل تلك الطرق البدائية وبشكلٍ أكثر رصانة ودقة وسهولة، ودخلت التقنيات الحديثة على نفس المسار كذراعٍ داعمٍ ومساند لكشف الحقيقة ولعل أجهزة التصوير التي تحفظ الماضي في صورةٍ ثابتةٍ أو متحركة أكثرها قوةً وتأثيرًا وقبولًا، لتنتشر انتشارًا واسعًا حتى أصبحت بيد وجيب كل إنسان تقريبًا فضلًا عن المنشآت والطرقات، ولن نطيل في موضوع حسن وسوء الاستخدام فذلك شأن آخر قد نفرد له مساحة خاصةً نسلط عليها مزيدًا من التركيز في وقتٍ لاحق.

إنَّ من أسهل الأمور اليوم أن يصور المرء ما يشاء تصويرًا عمليًا بجهازه المحمول في جيبه، وبما أن الإنسان مخلوق متطور فقد ساهمت التقنية الحديثة كمواقع التواصل بمشاركة ما يقوم بتصويره، فيعرض التقاطاته عليها ليشاهدها الكثير من الناس ويقومون هم أيضًا بدورهم في إعادة النشر وكلٌ بحسب رغباته وميوله وأهوائه، فمنهم الشكاك غير المُتيقن والمعتمد على احتمال "تصيب أو تخيب" ومنهم الكاره الراغب في الانتقام ولا خصم له سوى "العيار الذي لا يصيب يقلق" ومنهم المقتنع جدًا بصدق أحاسيسه دون دليل معتنق "إحساسي لا يخيب" ومنهم كذلك الإمعة، الواقع في الحيرة بين العالم والمُتعلم ولا يقدم شيئًا سوى المشاركة بعملية إعادة التدوير لمجرد المشاركة.

يذهب الناس إلى بعض الأماكن السياحية بغية الترفيه وقضاء أوقاتٍ ممتعة وقد يتألق النجم السياحي لبعض الدول في فترة من الفترات فيتوافد عليها الناس ثم تخبت جذوته ليجذبهم سطوع نجم سياحي في بلد آخر. وهكذا هو الحال لكن مع بعض الاستثناءات، منها خريف محافظة ظفار؛ حيث إن ما يجذب الناس سنويًا في المقام الأول هو طبيعة المكان المتأثر بالطقس والأجواء الباردة والماطرة في فصل الصيف، ثم تأتي المقومات السياحية الإضافية المدخلة في المقام الثاني ولا نقلل من أهميتها، ويأتي كل إنسان بثقافته وقناعته وفكره وأدبه وتربيته، وفيهم من يعتقد أنه الوفي المخلص والمصحح الذي سيقوم بإصلاح الخلل فورًا عند حدوثه أو مصادفته وإن لم يجد فلا مانع لديه من البحث والتقصي عن الخلل أثناء فترة وجوده القصيرة في محافظة ظفار وقد لا يتسنى له ذلك في بلاده لأسبابٍ هو يعلمها جيدًا، وما أن يصل ولاية صلالة حتى تبدأ مرحلة التنقيب عن الأخطاء مُستعينًا بجهاز تصويره ومواقع التواصل لينطلق في رحلةٍ سياحيةٍ للتحقيق والتحري وليس الترفيه؛ إنَّ هذا النوع من الناس قد اعتادت عيناه على رصد الخطأ وإن خفي وصغر وأغفال الصواب مهما كان واضحًا وكبيرًا.

يرصد الحادثة وهي الخلل، يصورها فيحدث الإثبات ثم يطلق عليها حكمه المباشر من خلال اعتقاده وربما مشاعره أو شكوكه أو رغباتٍ وأهواءٍ أو شؤونٍ أخرى هو أعلم الناس بها وقد اقتنع بحكمه القاضي بصحة ما يعتقد، كما أنه لن يقوم بنقل تلك الصورة أو المقطع إلى جهات الاختصاص المعنية بالأمر، كلا فذلك ظلم في حق نفسه؛ إذ يجب على النَّاس معرفة ذلك الشخص العظيم الذي قام بالكشف والرصد والتحقيق والحكم والذي سيسجل التاريخ فضل التغيير له لاحقًا- كما فعل السحرة والمشعوذون قديمًا نظير مكسبٍ مادي- فيقوم بالنشر سريعًا على مواقع التواصل محققًا سبقًا وزخمًا كبيرين ولن تطاله أية عقوبة من باب حرية التعبير والرأي وغيرها، كما أنه يتمتع بحصانة الضيف على الجميع في مفهومها العربي الواسع ولا جناح عليه إذا نشر ما يُسيء للمُضيف فهو مُحقق يريد لنا الخير.

لا شك أن فاعلية مواقع التواصل لم تعد خافيةً على أحد ويصل تأثير صوتها الصاخب إلى أبعد مدى ليعود التفاعل مع صداه على جهات الاختصاص ذات الشأن باتخاذ إجراءٍ سريع والسرعة هنا غير مفضلة؛ وعليه فإنَّ تصعيد نظام الشكاوى إلى المستوى العملي الثاني بات أمرًا ملحًا بالغ الضرورة حتى تلمس الناس مصداقية ولا تلجأ إلى بث شكواها على مواقع التواصل ليعرب عنه خبرًا عامًا في متناول الجميع بعد أن كان مبتدءًا في صميم اختصاص جهة محددة.