علي بن سالم كفيتان
عليك أن تُجاهد لتصبح كاتبًا حيث تصبح حقوقك الفكرية جزءًا من المساومة، لكي تبرز ما تكتب فوجودك على صفحات جرائدنا المحلية يعتبره مُلَّاكُها غنيمة للكاتب وفرصة لا يحلم بها، وتحت هذا العنوان تغيب الحقوق الفكرية للكاتب، فهو مَن يكتب المقال ويتوسَّل لنشره ويطبع الكتب على حسابه، ومن ثم عليه أنْ يسوِّقها بمساومات لا تنتهي مع دور النشر ومنافذ البيع الشحيحة هذا إنْ كتب للمادة النجاة من مقص الرقيب، وفي الحقيقة أن الكتاب العُمانيين مبدعون وأثبتوا ذلك بمجهوداتهم الفردية بالحصول على تجاوب مجتمعي مع ما يطرحون وجوائز إقليمية وعالمية دون رعاية، وللأسف يكون الاحتفال بهذه الإنجازات الأدبية باهتاً عبر منح الكاتب خطاب شكر وتقدير إما على إهدائه فكرة مجاناً للجهات المعنية أو مقابل إنجاز إقليمي أو عالمي، وعليه أن يعتبر ذلك تكريماً سخيًّا ولفتة لا تُنسى؛ فالتقاط صورة مع معاليه أو استلام شهادة من سعادته هي نهاية الحكاية.
اتَّصل بي أحدهم يوماً وهو منشرح الصدر، وقال لي: أحضر لي عدد 20 نسخة من كتابك مُقابل مبلغ زهيد جداً حدَّده هو كنوع من الدعم لإبداعاتي، وفي الحقيقة لم أحضر له النسخ العشرين، فقد أهديت قبل عام ونيف نفس الجهة عدة نسخ مجانية لكُتبي متوسلا بها عبر إهداءات لمعاليه وسعادته، وبعد أشهر يتصل بي مسؤول رفيع ليُنبِئني أنه يرغب في مقابلتي، فتوسمت خيراً لعلهم سيطلبون مجموعة نسخ توزَّع على السفارات ومكتبات الجامعات والكليات والمدارس والمطارات وجناح الوزارة في معارض الكتب، وفي الحقيقة كان الرجل دَمِث الخلق معي، وبعد كلمات المجاملة استلَّ مظروفًا بُنيًّا من على مكتبه ليسلمني إياه وابتسامة عريضة ترتسم على وجهه، لقد كان مغلقًا بإحكام، بعدها أخذنا القهوة وبقايا الحلوى الرائعة على مكتبه الأنيق ثم غادرت، وأنا أقلب فكري عن مضمون ذلك المظروف المرصع بالأختام على حوافه، للتأكد من عدم فتحه إلا من صاحب العلاقة، لم أنتظر كثيراً فعندما دخلت السيارة مزَّقت أطراف المظروف لأجد رسالة شكر معنونة لي بالفاضل حتى صفة الكاتب ضنُّوا بها عليَّ، وذلك نظير إهدائي كتابي إلى صاحب السعادة أو بالأحرى إلى صاحب المعالي، أغمدتها في المظروف ولم أفتحه من تاريخه ليسكن الخطاب في شنطتي العتيقة التي أجمع فيها خطابات من هذا النوع، سألتني بنتي لماذا لا أنشرها على مواقعي عبر التواصل الاجتماعي؟ فقلت لها سأكتفي بوضعها هنا، فربما نشرها سيكون جزءًا من الإرث الذي عليكم توثيقه بعد مغادرتي هذه الدنيا.
يبدو أنَّ الفكر النابع من الداخل مادة غير مرغوب بها، في الوقت الذي نفتح فيه قلوبنا وعقولنا لما هو قادم من الخارج، تمنيت أن تطعم المناهج الدراسية بنصوص لكُتاب عُمانيين أثبتوا وجودهم محليًّا ودوليًّا، وأن تصبح رواياتهم ومقالاتهم مادة تدرس من رياض الأطفال إلى أروقة الجامعات، وأن تفتح لهم قناة عُمان الثقافية مساحات حرة وهادفة بعيداً عن تكرار المكرر واجترار مواد لم يعد لها مكان من الإعراب اليوم، عبر حوارات تناقش القضايا المعاصرة في مجتمعنا من واقع فكري، فقضايانا لا يمكن لأحد أن يعالجها غيرنا؛ على سبيل المثال وليس الحصر: حضرت جلسات للمحكمة في اليوم الذي يخصص لقضايا المخدرات، فهالني المشهد من شباب في مقتبل العمر سيقضون سنوات في غياهب السجون، والتساؤل الفكري يقول: ما الذي دفعهم إلى هذا الطريق؟ وكيف لنا أن نُعمل الفكر لعلاج مشاكلنا؟ يجب أن تناقش هذه القضايا بصوت عال وأن يعلم المجتمع النتائج الوخيمة لها، وأن تُمول دراسات اجتماعية لتلك القضايا واستنباط الحلول قبل أن يستفحل المشهد ونصل إلى نقطة اللا عودة.
في الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى الإبداع الفكري والتقدم التكنولوجي عبر الذكاء الاصطناعي، نجد هناك توجُّهًا لا يستهان به لدى الشباب في العودة للماضي بكل تجلياته، عبر تعميق مفاهيم لا تتوافق مع الحاضر وتقود لأشكال مختلفة من التعصب، وهذه ظاهرة أخرى بدأت تظهر للعيان يغذيها الفراغ والبطالة والشعور باليأس، وللكشف عن مثل هذه الظواهر وتحليلها يتوجب أن تكون لدينا مراكز دراسات اجتماعية وفكرية تُسهم في استتباب الفكر السليم والتوجه الفطري للمجتمع؛ بحيث تنبع الحلول من واقع فكري وليس بناءً على هاجس أمني فقط.
لقد واجَه المفكرون عبر التاريخ تحديات جمَّة، لكنهم يظلون صمام الأمان للمجتمعات الحيَّة التي تعترف بسمو الفكر الإنساني؛ لهذا قد نحتاج لمراجعة واقعية وتوجه مختلف عندما نتعامل مع الكُتاب والاُدباء والمُفكرين في بلادنا، ولا شك أن ذلك ممكن في ظل القيادة الحكيمة لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم، مجدد النهضة العُمانية ومُلهم الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بلادنا -حفظه الله ورعاه.