مع عبدالله الطائي

حمود بن سالم السيابي

 

أين بيت صوت عمان ؟
أين الذي في قصائده ملح بحرها وجرحها ؟
أين الذي يبرق في عينيه "فجرها الزاحف" ويغزل من أنين الراسفين بقيودهم في زنازين الجلالي نداء النهضة وصوتها، لعله هنا عند هذه البقعة التي ملأتها الشمس فهي تشبه روحه الحرّة؟
بل هنا حيث يتلاطم الموج ليدفع "الشراع الكبير" في هجرته القسرية بحثا عن رصيف يُعْلى على ساريته قصيدته، وحيث يستطيع أن يتنفس الأوكسجين ليغني للحرية، ويتظاهر في الشوارع لأجل فلسطين، ويهدي شالا أخضر كنخيل بلاده لياسمينة النضال الجزائري جميلة بوحيرد، لعل بيته هنا حيث تقف هذه السيارة المتعبة على ظلة الأمس بجوار بيت النخلي عبدالله بن سرور الغشري. يبدو أن بيته لا هذا ولا ذاك فبيته كما تتذكَّر حارة وادي العور هو البيت المعروف ب"بيت النزواني". وهو بين البيوت التي ينفتح عليها "باب المثاعيب" ضمن حارات الرقعة المسقطية الباذخة. ويجاوره إلى الشرق بيت خاله الشيخ سعيد بن أحمد الكندي وعدد من بيوت السادة آل سعيد. ولأنَّ أودية مسقط وروافدها من الشراج تتنادى إلى هنا فتدخل معا من باب المثاعيب مارَّةً بسفح قلعة الميراني وجدار مسجد الشهداء قبل أن تعانق البحر. وفي هذه البقعة الباذخة من مسقط أمضى الشاعر الكبير ردحا من شبابه في "بيت النزواني"، بينما بيت والده المعروف "ببيت الوادي" لوقوعه على شفير وادي العور فسكنه الشيخان سليمان ونصر بعد وفاة والدهما الشيخ محمد بن صالح الطائي، ولكن أين بيت النزواني؟ بل أين بيت الوادي؟ بل أين حارة وادي العور؟ بل أين كل الناس الذين كانوا هنا؟
يا لخذلان العنونة لتاريخنا ، حيث بتنا نفتش عن الأمس الهارب ضمن الألبومات التي وثقها الأجانب لحاراتنا فنقارب صورة بعيدة بالصور المترسخة في الذاكرة ونتخبَّط في الظنون لأجل أن نستفز الصمت لعل السكيك تصطخب بالحياة. ولكم تمنَّينا لو يحتفظ المكان ببعض الذين شكلوا هويته وجوهره وروحه فيتجاور بيتا الشيخ عبدالله الطائي والسيد هلال بن بدر كما تجاورت أبيات قصائدهما. ولكم تمنينا لو أسكنّا أمثال هذه القامات في المآقي وأقمنا لهم قصوراً في حنايا الصدور ، لنقول للأجيال بعد سنين بأن هذا بيت صاحب "صوت للنهضة نادى" وذاك بيت صاحب "يا نسمة من ربى جبرين مسراها. ولعل كتاب شيخنا وأستاذنا الأديب الكبير أحمد الفلاحي "مع عبدالله الطائي" هو وفاء الحبر "لحادي القافلة" و"المغلغل" و"صاحب ديوان وداعا أيها الليل الطويل". والتفاتة الأديب الفلاحي تجاه دقل عماني قاوم الأعاصير ليبقى من ملأ الدنيا وشغل الناس يملأ الدنيا ويشغل الناس. وإذا كان الشيئ بالشيئ يذكر ففي مايو من عام ٢٠١٤ كنت أقف بجوار بيت أصفر الطلاء في الحي القديم لسالزبرج ، وكانت تفصلني ٢٢٣ عاما عن وفاة "موزارت" صاحب ذلك البيت. ورغم أن سالزبرج كبرت إلا أن الموسيقى كانت أكبر من أمنيات رئيس البلدية في إعادة صياغة البلدة فاستمر بيت "موزارت" مكانه في الحي القديم طوال تلك الفترة وسيبقى السياح لمئات السنين القادمة يتوقفون طويلا أمام حروف الاسم في واجهة البيت وهم يمرون عليه وعلى بقية البراندات بامتداد الحي القديم، وما زال نهر "السَّالز "ينساب على نغمات بيانو "والتر" الذي يحبه موزارت فقد صنع لأجله وما زالت غرف البيت وردهاته تزهر بأوبريتات "زواج فيجارو" و"كوزي فان توتي" و"دون جيوفاني". لقد تحوَّل البيت إلى مزار يقصده عشاق الموسيقى الكلاسيكية ، وشكَّل مصدر جذب سياحي كبير كأهم ما يزار في المدينة النمساوية الساحرة. ودخلتُ صحبة الأديب الكبير الشيخ سعيد النعماني منزل الشاعر أحمد شوقي بالجيزة والمعروف ب "كرمة ابن هاني" فتتردد في الردهات قصيدة "ريم على القاع بين البان والعلمِ" بصوت أم كلثوم ونحن نطالع قلم أحمد شوقي ومسودات القصائد بخط يده وكرسيه وأوسمته، ولكم تمنينا أن تشفع الأبيات الشعرية للغرِّيد العماني وهو يصدح :

يا بلادي ما اغتربنا ما نأيْنا
طالما أنّا رجعنا فالتقَينا

قد نسِينا أمسِ مذ لحتِ لنا
ومن البهجة بالعود بكينا
لو احتفظنا ببيت له داخل سورها
وبالعودة إلى رائعة أحمد الفلاحي "مع عبدالله الطائي" نعرف أنه التقاه لأول مرة في بيت مهاجر نخلي هو سيف بن السليمي المقيم بالدمام وذلك عام ١٩٦٦ إذ أَوْلَمَ النخلي لضيفه الطائي ودعا الفلاحي للوليمة معه فخطّ القدر صفحته الأولى في علاقة امتدت حتى رحيل الطائي عام ١٩٧٣م ، لتستمر الوشيجة مع نتاجه الثقافي حتى كتابة "مع عبدالله الطائي" وإلى آخر العمر. وفي كتابه "مع عبدالله الطائي" الصادر عن دار الانتشار العربي يعرض الفلاحي "معيَّته" عبر مجموعة مشاهد يستهلها بمقدمة تحدث فيها عن شخصية الأديب الكبير الشيخ عبدالله الطائي التي فرضت نفسها كنتاج لعوامل تنقله في أكثر من قطر فانعكس ذلك على زخم الحضور كقلم متَّقدٍ وسيّال. ثم يفتح الفلاحي فصلا تحت عنوان لمحات من سيرته منذ ولادته في مسقط في أسرة علم وأدب إلى تلقيه العلم على أيدي فطاحل العلماء ، وأنه كبر بين قامات رفيعة تقلدت القضاء وتسيدت ناصية الأدب. ثم يعرض لتجربته الروائية متوقفا عند عدة عناوين لأعماله فأثنى على حضوره اللافت في القص والسرد والرواية. ويقدمه في فصل آخر كرائد من رواد الثقافة ليربطه بجده لأمه وبخؤولته الكنود "وقد كاد العلم أن يكون كنديا". ويتوقف في فصل آخر للحديث عن الجحود الذي لف الذكرى الخامسة لرحيله معبرا عن حزنه لنسيان قمة من قمم الأدب ورائد من الرواد. وفي فصل آخر يقدمه عبر حصاد عقدين من الغربة اشتعل فيها شعره بلوعة الفراق وغصص الاغتراب. ويتناول في موضع آخر قلم الطائي الناثر فيراه من نفس مشكاة الشاعر وأن كل مضامينه تتمحور حول الوطن وإرثه وقضاياه
ويختم كتابه بحوار مطول أجراه الأستاذ نصر بن ليث الطائي لصالح موقع عبدالله الطائي الألكتروني فيعرض كيف ومتى عرفه. ويدافع في موضع آخر عن شخصية هذا الرائد بعد أن تناوله البعض بحجج واهية تقوِّيه لا تضعفه مستشهدا ببعض أقوال قادة النضال الذين شهدوا له بالصدق في القول والعمل
لقد اختفى "بيت النزواني" من حارة العور ومعه "بيت الوادي" و"بيت الشجر" وقبل كل ذلك بيت السيد أحمد بن إبراهيم وبيوت السادة آل سعيد لضرورات المنفعة العامة. ولكن إحياء الشخصيات في الذاكرة يمكن أن يعوض بإطلاق أسمائها على الشوارع والساحات والقاعات الثقافية وفاء لفكرها الذي شكَّل وجداننا وأثَّر في الحياة. ومن بين هذه الشخصيات اسم هذا الرائد الفذ السابق لعصره والذي كان بنتاجه خير سفير لحضارة عمان.
وقد نشرتُ في السادس عشر من يونيو عام ٢٠٢١م تغريدة على حسابي في التويتر تحسّرت فيها على العنونة التي غيبت العنونة وبها أختم هذه السطور"هل سأقود سيارتي في حارات مسقط يوما والنفيجيتر يردد اسم السيد هلال بن بدر؟ هل ستتعطر دروب نزوى وأنا في حضرة ناصر بن مرشد؟ هل ستتلألأ طرود DHL بعنوان سمائل شارع خلفان بن جميل؟ هل سيقودني "جوجل ماب" وأعلامنا على لافتات الدروب في صحار وصلالة والرستاق؟ إن بسمارك في ألمانيا على عبوات الماء
________
مسقط في الخامس من أغسطس ٢٠٢٢م

تعليق عبر الفيس بوك