قصة القرية العالقة (5)

 

 

حمد الناصري

في ليلة ماطرة، اهتزّ باب بيتهم الصغير، بريح عاصفة، شديدة، كأنّما أحدٌ يصَفعه بقوة عاتية، فيهتزّ البِنَاء بأكمله، ركضتْ أمه نحوهم.. خوف ينتابها، يصطدم أحمد بأعمدة البيت، كأنّما أصابته حالة هوْس، وفي هذه اللحظة شعر بالقلق، خاف أن تُصيبه النّوبة التي أصابتْ أباه وأخاه الصغير قاسم! تُرى ماذا يفعل.؟ وكيف يتصرّف.؟ وكيف يحمي أختيه.؟ وكيف يَبُرّ بوعده لأمه؟

ما زال الخوف يتملّكه، خشيَ أنْ يتهاوى البيت على رأس أمه، فيفقد كل شيء!

 بعض أجزاء البيت تتهاوى كأعجاز نخْل، أمام ناظريه، صفح بشطر وجهه ناحية أمه وأختيه، احتضنهنّ، ونفسه مشحونة بطاقة البقاء! وكأنه أحسّ بكدر يَعتريهن، فقال على عُجالة:

- ما بكِ أمي.؟ أنا لم أعُدْ صغيراً.. وعِزّة النفس، من شِيَم الكبار!

رسم قرارهُ في نفسه، عَقَلها وتوكّل، ولم يُبْدِها لأحد غيرهُ.. وقال:

ـ ربّي لا تُخيّب ظنّي بك!

ولّتْ بوجهها عنه وانشغلتْ تحتضن بنتيها، مريم وشريفة.. بانَ انفراج في مُقدّمة ضِرْس خديجة العُلوي فقد خَلْعته قريباً وبدتْ أسنانها تلوح عن فُرجة كبيرة في الفك العُلوي.

كانت خديجة، مَربوعة القامة لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة. قال أحمد وهو ينظر في عين أمه الخائفة:

ـ هل تظنين أنّ أقدارنا ليستْ كأقدار غيرنا.؟ وأنّ حظوظنا في الحياة لا تزيد عن تلك الاقدار التي أسْقطت ذلك الرجل من أعلى جبل قرية البحر، وتمزّق جسده، واختلف الناس، في دفنه.؛

والسؤال الذي يَشغلني:

ـ لماذا طالب البعض أنْ تُلقىَ جثته في العراء.؟ وكما سمعت أنّ للميّت كرامة، وأن إكرامهُ دفنه.

انزعجت خديجة من أسئلة إبنها، انسحبت، وتعلّلت بملاطفة ابنتيها، فقال احمد مُستدركاً:

ـ يا أمي، لم أقصد بكلامي أنْ أجرحك، ولكن كنت أريد أنْ اُشعرك بغضبي تجاه تلك الاقدار التي وقفتْ ضِدّنا في كلّ مرة وكنت أريد أنْ أبَيّن لك ما أشْعر به، وأقنعك بأني لم أعد طفلاً، فأنا رجل.؛

وكذلك أريد أنْ أفهمك بأنّ إعجابي بك يفوق إعجابي بغيرك. كإعجابك بشجاعة أبي عبدالله وجدي عبدالرحمن! وحبّي لكِ ولأختيّ يكبر في نفسي، وهذا هو العهد الذي قطعته على نفسي ولن أتخلى عنه ما حييت.؛

أمي، ما زالتْ صورة ذلك الرجل لم تغب عن بالي، وكأنها تخزّنت في مُخيّلتي، وارتبطتْ في ذاكرتي بقوة، أتخيّل ذلك الرجل الذي سقط من أعلى قرية البحر، وتمزّق جسده، واختلف الناس في دفنه.؛ ارتجفُ رُعباً كلما نظرتُ إلى تلك الجثة الهامدة التي اختلفَ عليها الرجال.؛

 وأظلُ مرعوباً أمام هول ذلك المنظر المُهيب، ترتعب نفسي كلما لاح في خيالي ذلك الميّت، وكأنه يتخلّى عن حقّ، يُسلب منه قهراً.. وحدثتُ نفسي، هل ذلك الحق المَسلوب جزء من تعلّق الرجل بالحياة أم هو حزن شديد لا يفقهه غيره.؟

ولا زلت أتذكّر موقف رجل شَهم، من ضِمْن المُتحلّقين حول جثّة الميّت وصاح بصوت قوي:

ـ أيها الرجال، الميّت وإنْ تمزّق جسده يُدفن بكرامة.؛

لكن البعض أصرّ في جمع ما تمزّق من جسده، مُؤيّدين مُقترح أو فكرة البعض منهم، أنْ تُلقىَ الجثّة في العَراء ليستفيد منها الطير والحشرات والعناكب والحيوانات الجبليّة.

لم تردّ عليه أمه، ولم تلتف إليه، فأعاد السُؤال مرة أخرى ولكن بطريقة مُختلفة:

ـ لماذا في كل مرة تقف الأقدار ضدّنا...؟! هل الأقدار محمودة، إذا تحوّلت إلى حُزن.؟ وهل الاحزان كفيلة بتفرّق الرجال وتمزّقهم.؟

صرفت أمه وجهها عنه وانشغلتْ ببنتيها..؛

فقالتْ مريم مُحدثة أمها خديجة:

ـ أمي... ما هي اللحظات التي تجعلنا أكثر قوة، الطاقة التي نشحن بها أنفسنا أم مصدرها الوجداني.؟!

قالت خديجة بوجه باسم:

ـ قد يقتنص المرء لحظاته أو تمرّ عليه لحظات وجدانية يستشعر بها مَصدر قوته، إذا ما توفّرت الرغبة، أما مَصدر الطاقة الخلاّقة فهو العزم والعمل به..؛

عقّبت مريم:

ـ وهل للحظات مِقدار في الحياة.؟ أم هي مصدر للفِعل.؟ ام كلاهما معاً ـ؟

قالت الصغيرة، شريفة:

 أنا قرأت.. أنّ للحظات مِقْدار والمِقدار هو قوة اللحظة في سِعتها، حجمها وقوتها، آثارها، ومصدر الفِعْل في الاشياء الدافعة كالإرادة والعزم والنيّة.

مرة استمعت إلى حوار احتدّ بجدل كبير بينك وبين جدي عبدالرحمن، فهو يُشبّه علاقة مقدار اللحظة وقوتها ومصدرها كعلاقة السَبب بالمُسبّب.. ويقول أنّ الفِعْل هُنا مَصدر للأشياء والإرادة مِقدار لما نتحمّله.؛ وأذكر أنكِ أكدّت يومها في ذلك الجدل المُحتدم، أنّ للقِيَم باقيات؟

ردّت خديجة بضيق وقد تنهدت بعمق :

ـ عمي عبدالرحمن كان له رأي، ولي رأي مُختلف..

واختصرها لك، أنّ مِقْدارها بحجم ساعة أبيك وفجيعتنا برحيله وأما مَصدرها فهي بقدر لحظة انزلاق أخيك من فوق الصخرة.؟!

وأمّا الباقيات من القِيَم هي التي أحدثكم عنها، وهي من فضائل الاعتزاز، فما يُقدّمه الانسان من عمل طيّب في حياته ودفاعه عن قيَم راسخة توارثناها عن مُجتمعنا وتلقيناها من آبائنا، وبقيتْ موروثاً نُحافظ عليه وننقله لمن بعدنا، ذلك ما يستحقّ الاعتداد به.؛

وأما الفضائل هي تلكَ الشّيَم التي نعتز بها، كالأخلاق، والنيّة الطيبة.. وما نُؤثرهُ من عمل نقي للمُجتمع ونُحافظ على ما توارثناهُ كفضيلة وكُلّ أولئك له قِيمة واعتزاز وعلينا أن نُحافظ عليها بقوة فيفخر غيرنا بها، ولا نجعل المُستبدين يتحكّمون في قبضتها، ثم يُفرّقونها.؟

والفقر ليس عيب وقد قِيْل من خُصّ بالكرم نالَ خصاصة التفضيل، وإنْ خِفْت من فاقة فقد يتحوّل حاله إلى ضَيق عيش وسُوء حال ومن ابتغى بسطة البَطر وسَعى لها عُوقب بصرفها إلى غير أهلها.؛

عقّبت شريفة الصغيرة:

ـ أمي، لم أستطع فهم ما تقولين، ولم أعُد أفرّق بين مسألة الجدل الذي دار بينك وبين جدي عبدالرحمن ولا بين مفهوم الباقيات وفضائلها ؛ فهل تقصدين، أنّ أخلاقيات الإنسان مأخوذة من النية أم هي جمائل مُتوارثة، تشكّلت بفعل عادات وتقاليد ثم تحوّلت إلى قِيَم واعتزاز.؟

ـ يا شريفة.. كل الاخلاق لا بُد لها من مَصدر، ومصدرها، القِيَم والاعتزاز، والاخلاق تزيد ولا تنقص، إذا آمنَ بها الانسان وجعل لها وزن وأثر باقٍ.

قالت الكُبرى مريم وهي تزاحم ركبتيها بركبة أمها:

ـ هل يستطيع الفرد مِنّا، أنْ يُحقّق قِيَماً ثمّ يُعطّلها دون إلتزام أحد بها.؟

ـ إن كنتُ قد فهمت ما ترمين إليه.. فأقول بأن تحقيق القِيَم، تتحقق بإرادة الفرد وتعطيلها يُعتبر تعدِّ عليها.؛ ولا تتساقط بالتعطيل ولا تُسقطها التعدّيات.؛

ومن وجهة نظري، الانتقاد لا يجب أنْ يُعَرّضك للمُسائلة بل إنّ المسؤولية واجبة فيما يَنتفع به المُجتمع، وفلسفتي في الحياة، أنْ نقول ما نشعر به وأنْ نكتب ما نؤمن به، ومن يخدم الوطن يطمئن وذلك هو الاثر السليم.؛

 ولا غرو فقد حدث ذلك الإطمئنان مع زوجي عبدالله وعمي عبدالرحمن وخالي حمود،أولئك بثلاثتهم وقفوا بقوة، وقاموا بمسؤوليتهم اتجاه مُجتمعهم، وقالوا قولة صَمّاء كالصخرة التي رحلَ من فوقها أبيك ومات من لحظتها وانزلق من فوقها أخيك وكانت سبباً في نهايته، وتلك الصخرة الصمّاء ما هيَ إلّا مِقدار للفجيعة ومَصدر للرحيل.؛

تلك الصخرة بمثابة الوطن وترمز إلى عزتهم، وكانوا بثلاثتهم يقولون الاطمئنان عزة وكرامة، ولا حياة بلا كرامة.؛

 ويومئذ قال عمي عبدالرحمن للمسؤولين الذين جاؤوا يَقتلعون زروعنا ويَقتلوننا في أمكنتنا بغير مسؤولية.؛ اذهبوا عن قريتنا، لا حاجة لنا لمشاريع تُدمّر قريتنا، لا تقتلونا ونحن أحياء.؛

قال أحمد مُعقباً :

ـ أنا سمعت، بأنّ المسؤولين لديهم قول مُختلف، ويقولون.. نحن مع القِيَم الخلاقة للمجتمع ولن نقطع وعْداً ولا نُعطي عهْداً لاحد ولم نتسبب في موت أحد، فالذي نُريده تحقيق المنفعة العامة ولن نُحققه إلا بوجود أمان المجتمع.؛

وحين يلتزم المُجتمع بما ينفعهم في مثل هذه المشاريع الكبيرة، فإن المسؤولين قادرون من خلال ذلك الإلتزام، تنفيذ خططهم على الواقع.

وكل المشاريع ـ يا أمي ـ إن توقفت لا تعود بسهولة، ومُلزمة بأموال وقوانين وقد يكون التراجع عنها اكثر خسارة من حجم المشروع نفسه.

قالت خديجة بضيق :

ـ ألا يُعد ذلك الفِعْل تبلّداً واستخفافاً بحق المواطن، والتعدّي على رغبات الساكنين وتَعطيل إرادتهم؟

ظلّت ساكتة.. ثم استأنفتْ حديثها:

ـ ليس ذلك مجرّد رأي مني ولا أنا ندّ لأي مسؤول، فقد سمعته من الناس في القرية. وعايشته معهم ولم أجد له تفسيراً واحداً، يُمكن فصله عن الاستبداد والتسلّط، فالمسؤولين يستضعفون الناس البُسطاء بقرارات فوقية تعسفية أقل ما نقول عنها، قرارات مُستبدّة لا عدل فيها، وظُلم لا مُبرر له، فالتسلّط على الآخرين طُغيان والطُغيان أداة فِعْل المُستبد حين لا يجد الحزم، فينفّذ قراراته كيف شاء، وحسب أهوائه ورغباته، يُمارس تسلّطه ونحن عنه عاجزين.

والسبيل الوحيد إلى تعمير القِيَم هو الاعتزاز بها والعمل بموجبها، والوفاء بعهودها، ودفع الضرر عن القرية ذلك هو الاعتزاز؛

قالت الصغيرة شريفة:

ـ أمي مَن علّمك كل هذا الكلام.

ـ هههه، ضحكتْ، عمي عبدالرحمن وزوجي عبدالله هما اللّذانِ مكّنا في داخلي هذه الطاقة والاعتزاز بالقِيم والقرية!

الشمس ترسم لوحة بانورامية مُذهلة.. منظر خلاّب يتشكّل في سماء القرية، شُعور بالدفء ونشوة عجيبة وسكينة أخذت تخطف بصر الشاب الذي ازدادت كراهيته في المشروع.. تماثلت في مخيلته صُورة مَشهد الجرافة التي قاومها أبيه ومات في ساعتها، وانزلاق أخيه من على الصخرة التي وقف عليها أبيه نداً للمسؤولين وموت جده عبدالرحمن وهو يُدافع عن القرية.

مدّ ناظريه إلى تلك اللوحة المُذهلة، المُتشكلة في سماء القرية، وأخذ يتفحّص جسده ويده على شَعرهِ الأشهل.. جرّ رِجْلَيه ومَشى، وعيناه في عِمارة البيوت القديمة، وأمله كبير، بإسْعاد أختيه وأمه التي تقدّم بها العُمر!

تعليق عبر الفيس بوك