اسأل مجرَّب

 

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

يُروى قديما أنَّ بدويا كان مُرتحلا على ناقته من مكان إلى آخر عبر الصحراء، وما إن حل المساء حتى فضَّل التوقف والاستراحة تحت إحدى أشجار الغاف، سيما وأنه بات على مشارف المدينة التي يقصدها، وبالفعل نزل من على راحلته وأناخها، ثم حط ما عليها من أحمال، وقام بإعداد قهوته على نار كان قد أشعلها، وأخرج بعض التمر من "جراب السح" الذي يحمله معه، فتناول وجبته، وبعد أنْ صلى فرضه تمدد لينام، لكن النوم جفاه؛ فأخذ ينظر إلى صفحة السماء ويتأمل النجوم، فحانت منه التفاتة إلى ناقته وهي تتثاءب، فأخذت بالتثاؤب، فتنبه فورا وقال في نفسه: "أنا تثاوبت من تثاويبة ناقتي، لكنَّ ناقتي تثاوبت من تثاويبة من!؟"، أي أنَّ عدوى التثاؤب انتقلت إليَّ، ولكن هل كان تثاؤب ناقتي نُعاسا أم هو عدوى؟ وبفراسة البدوي تصنع النوم ممسكا بـ"سكتونه" تحت اللحاف، وما هي إلا لحظات وظهر من خلف "عرقوب" الرمل القريب طيف رجل يمشي بحذر شديد نحو الناقة، وما إنْ همَّ بحل عقال الناقة حتى هبَّ البدوي شاهرا سلاحه في وجه اللص الذي كان مُختبئًا لينتهز نومه ويقوم بسرقة الناقة؛ كيف عرف ذلك البدوي أنَّ التثاؤب هو من الأفعال التي تنتقل بالرؤية؟!! أي أنك تقوم بنفس الفعل بمجرد أن ترى شخصًا أمامك قام بذات الفعل، وهو ما يعرف بالـ(Social  mirroring) في اللغة الإنجليزية؛ حيث إننا نقوم تلقائيًا دون تدخل مباشر منا بتقليد الفعل تلقائيا.

لا يولد الإنسان خبيرا بل تنمو المعرفة والعلم لتورق مع العمل، ثم تصب في رافد الخبرة بمرور الوقت، فالمرء لا يولد وهو موسوعة معرفية وعلمية، بل تصقله الحياة بخيرها وشرها، ومع التقدم في العمر وبسبب التعامل مع المواقف المختلفة يكتسب المرء منا ملكة الخبرة، ومع التمرس في مواقف الحياة المختلفة علميا وعمليا والاحتكاك بخبرات الآخرين تترسخ لدى العديد من البشر نعمة استبصار الحكمة، واستخلاص الرؤية من خلال المعطيات المطروحة، ومنها يتأتى لهؤلاء التمكن من رسم الاستراتيجيات بمختلف السيناريوهات المبنية على الخبرة التي اكتسبوها مع الزمن، وكم من امرئ ظل بكامل ألقه وعطائه -العلمي أو الأدبي أو الفني أو الفكري أو العملي- حتى النزع الأخير وإن ناهز التسعين من العمر.

دأبت الحكومات والشركات العملاقة والكبيرة على استجلاب بيوت الخبرة أو الخبراء المتخصصين في الكثير من مجالات التطوير والبناء والتقدم، وجدير بالذكر هنا أنَّ الاستعانة بذوي الخبرة لا يعد تقليلا من قدرات أي شخص أو انتقاصا من قدرات القائمين على أي مؤسسة، فلو نظرنا إلى قصة البدوي آنفة الذكر كمثال بسيط واستبدلنا الرجل المتمرس بشاب يافع يرتحل وحيدا لأول مرة على ظهر الناقة، لتثاءب وعدل وسادته وغط في النوم؛ وذلك لجهله بآلية انتقال عدوى التثاؤب، ولكن عين الخبرة تلتفت لمثل هذه التفاصيل الدقيقة، ولو أننا ركنا إلى تلك الجملة التنمرية: "ما بسه هذا؟ جاي يوخذ زمانه وزمان غيره!"، لما نهضت حضارات ولا عاشت أمم؛ لأن العربة الاجتماعية لا تمشي دون دواليبها الأربعة (الطفل والشاب والكهل والشيخ) من الجنسين؛ فكل شريحة عمرية تنقل خبرتها للشريحة التي تليها والسابقة لها، وربما يحدث أنْ لا ينسجم الطرفان وهذا صحيٌّ جدا لا غضاضة فيه؛ لأنه سرعان ما يتآلف الطرفان عند الوصول إلى النتيجة التي تثبت صحة وجهة نظر الطرف الصحيح.

قالوها قديما: "اسأل مجرَّب"، فقد مر بمثل هذا السيناريو أو ذاك؛ فجاءت حتمية الثقة بوجود الرأي الثاقب لدى هذه العقول، وما أروع أن نرى العديد من الذين تقاعدوا من أعمالهم وبدأوا مشوارا جديدا من العطاء في الحياة العملية، فأنشأوا المكاتب الاستشارية، أو المؤسسات الخدمية، واضعين خبرتهم بوصلة توجههم في عالم الأعمال باختلاف أنواعها، والأروع من ذلك أن نرى المؤسسات الحكومية والخاصة تستعين بهذه الخبرات في مسيرة عطائها من باب الاستشارة أو الاستنارة.

------‐‐-----------------------------------------

توقيع:

"فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالحَيَاة ُ مَرِيرَةٌ..

وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ..

وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ

إذا صَحَّ منك الودّ فالكُلُّ هَيِّنٌ..

وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرابِ"

(الحلاج/ رابعة العدوية/ أبو فراس الحمداني)