القتلة الذين يعيشون بيننا (2)

 

 

معاوية الرواحي

قبلَ عامٍ من واقعة قتل الشيخ محمد بن سعود بن بدر الهنائي، كنت قد كتبتُ مقالاً عن الحتمية التي تجعل وجود القتلة بين النَّاس أمراً متوقعا. ذلك الذي تراه في مكتب البريد، أو تلك التي تتعامل معها في بنكٍ من البنوك، أو ذاك الإنسان الذي يصفه الجميع بالطيب، لا تعلمُ ما وراءَه، ومن قد يستغل طبيعته القاتلة لكي يحوله لقاتل، أو متى هذه الطبيعة القاتلة، والقادرة على القتل سوف تتحول من الكامن إلى الفاعل.

كيف تبدأ مثل هذه المآسي؟ يجب أولا أن نعرف أن الشر موجود في هذه الحياة، ونصف من واحد بالمائة من عدد السكان الكلي في هذا العالم يعانون من اضطرابٍ عقلي جسيم. هذا هو الشر الموجود والكامن في حياة أي مجتمع، ومن ضمن ذلك مجتمعنا العماني الذي يتمنى البعض بكل مثالية ورومانسية أن يسبغ عليه صفات الكمال، أو الكلمة الشائعة غير العلمية "مجتمع طيب" لا يوجد تعميم صائب، في كل مجتمع شخصيات مضطربة قادرة على العنف، وقد تتجمع فيها الصفات المتكاملة للمجرم المثالي، لا يستطيع الندم، قادر على القتل، يبرر أفعاله ببرود، ومتلاعبٌ، ونرجسي، وقد يصاحب كل ذلك اضطرابٌ آخر من اضطرابات السادية. هؤلاء موجودون ويعيشون بين الناس، بعضهم بدأ في حياة العنف والجريمة، وبعضهم ينتظر الظروف المناسبة، وقليل منهم لم تسمح لهم الحياة بالخوض في عالم الجريمة ربما لأنهم لم يجدوا المكان الذي يساعدهم على الاستجابة لطبائعهم العنيفة، كما تقول المقولة الشهيرة "السايكوباثي بالولادة، والسوسيوباثي بالصناعة"؛ أي أنَّ الأول يولد وبه هذه الخصال وهذه الصفات، والثاني تصنعه الظروف.

إنَّ الجريمة الوحشية التي قُتل فيها الشيخ محمد بن سعود الهنائي تطرح عددا كبيرا من الأسئلة النفسية، والاجتماعية. من القادر على إتيان هذا الفعل؟ قد تصدم الإجابة البعض، هم أكثر مما تتوقع، لا بد من مئات على الأقل في تعداد سكاني مكون من خمسة ملايين، وعندما أقول "مئات" فهذا رقم متفائل، القادر طبيعيًّا والذي لديه هذه الخصال في دماغه موجود، وأتمنى أن تعود عزيزي القارئ إلى مقالي السابق، إن لم تقنعك هذه الواقعة بوجود الشر بين الناس. الحقيقة الإحصائية واضحة وبسيطة، عدد السكان يزيد، هذه الجرائم تزيد، يجب أن يفعل مجتمع النفسانيين شيئا ما ولو على سبيل: فبقلبه وذلك أضعف الإيمان!

هنالك شيء غائب عن العيون، وهو أن العلمَ بهذه الطبائع شيء فطري، ويمارس ويستغل في عوالم الجريمة بإفراط. الذي يتم الانتباه له، ولديه هذه الخصال، وإن كنت في بلادٍ من بلدان أمريكا الجنوبية، تعيش في شارعٍ من الشوارع التي بلا قانون، تحكمه عصابة من العصابات، فمن المحتمل بشدة أن تلفت هذه الخصال النفسية عصابةً تعرف جيدا هي تستقطب من، القاتل بدمٍ بارد، الذي يعمل كقاتلٍ مأجور، هذه خصاله وصفاته، بارد الأعصاب، ذكي للغاية، يجيد التخفِّي، وأيضًا لديه ما يكفي من المهارات النفسية التي يستطيع بها إقناع الآخرين على إتيان أشنع الأفعال، هذه من ألف باء الشخصيات النرجسية السايكوباثية، ولا شكَّ أن المدى العريض للاضطرابات النفسية التي يمكنها أن تعيق كوابح الإنسان الطبيعي، والتي يمكنها أن تحول الإنسان العادي إلى مجرم هي كثيرة، ولكن هذه الخصال المفعمة بالدموية، والذكاء، والجاذبية، وغياب الندم، وغياب التعاطف، هذه تشكل الوصفة المثالية بمعنى الكلمة للمرشح المثالي للقاتل بدم بارد الذي سيكون "موظفاً" مثاليا لعصابةٍ من العصابات، أو لكارتيل من كارتيلات المخدرات في كولومبيا على سبيل المثال.

وعلى صعيد الأسئلة النفسية، مثل هذه الطبائع هي التي ينتهي بها المطاف للجرائم الوحشية، ثمة حاجة كبيرة جداً من قبل مجتمع النفسانيين العمانيين للتوقف عن ثقافة التوعية الكلاسيكية، أو تلك المربحة جدًّا، والتي تجلب المتابعات، والتي تخدر مشاعر الناس، والتي تكرر مواضيع القلق والاكتئاب أو "قلق النجاح" وغيرها من المواضيع الجاذبة، التوعية بهذه الاضطرابات النرجسية، مهمة تنقذ أرواحاً، ونعم أعلم أنه لا يمكنك إيقاف شخصية مثل هذه بمقالة، أو بتغريدة، ولكن على الأقل يمكنك أن تترك بصمة ما في ذاكرةِ أحدهم، عندما يقرأ التوصيف النفسي للشخصيات القاتلة، والتي تعيش بيننا، على أية حال، أرجو أن تعتبر هذه الفقرة شطحة من شطحات طالب علم نفس متحمس، قد يأتي يوم من الأيام وأسخر من نفسي على كتابتي لهذه المقالة لأن الأمر ليس بسهولة وصفه، التعامل مع مجرم، متشعب، قادر على التوغل في العلاقات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه ما يدريك ما دافعه؟ ومن أجل من يفعل ما يفعله؟ ومن أجل ماذا؟ والسؤال المرير: لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟

أمَّا الأسئلة الاجتماعية التي تأتي مع جريمة فادحة مثل هذه، فهذا ليس سلوكاً عفويًّا، الطريقة التي تمت بها هذه الجريمة لا تدل على تصرف عفوي، أو مجرد لحظة، مجموعة مرتبة، ولابد من قائد لها، وأظنُّ أنَّ تتبع الخيوط الاجتماعية سيأخذ وقتاً، ولا شكَّ لديَّ أنَّ الجهات المختصة تقوم بهذا العمل، لأنَّه ليس من المعقول أبداً أن يحدث كل هذا بدون دوافع معقدة، أو بدون شبكة اجتماعية أخرى خفية تدور في السر، من هذا الذي لا يكتفي بالموت فحسب، وإنما جعله موتا بشعا بمعنى الكلمة؟ ما هو دافعه النفسي؟ ولماذا هذه الجماعة التي حدث القتل على يدهم كلهم أو على يد بعضهم، هذا كله مجهول ومتروك للقضاء الذي سيحكم بما يمكن إثباته.

كأي جريمة قتلٍ، الغموض هو سيد الموقف، وسيمر وقتٌ لا بأس به قبل أن تتضح الأركان الكاملة لهذه الجريمة، ومع أن البعض يركز على فكرة "معاقبة الجناة"؛ لأن هذا حق من حقوق الميِّت، أقره الشرع والعرف والقانون، لكن هذا ليس الحق الوحيد، فمعاقبة الجناة بما يثبت عليهم من أدلة إحدى الجوانب المتعلقة بحقوق الميِّت، وهنالك جانب الإجابة الشافية لأبنائه، وأقاربه، ومن أحبهم، ومن أحبّوه. وكابن لهذا المجتمع، لا أقول إنني أملك أي استحقاق لمعرفة الحقيقة، رغم فضولي المعرفي الشديد، واهتمامي بهذا المجال، وكوني من الأساس طالبًا في مجال علم النفس، الذي لديه هذا الحق هم تلك العائلة التي تعرضت لهذه الصدمة المؤلمة، والتي ستبقى عابرةً للأجيال، الطفل الصغير، والكبير، وذو الأبناء، وذو الأحفاد، والتاريخ، والذاكرة الشعبية. وكما أتمنى حالي حال أي إنسان آخر أن يدفع المجرمون ثمن أفعالهم، أتمنى أيضًا أن يصل ذوو المغدور إلى الإجابة الشافية، حتى وإن لم تعلن، حتى وإن لم تكن للتداول العام، هذا أبسط ما يُمكِّنهم لتجاوز هذه الضربة الموجعة في شخص أجمع الجميع على سيرته الحسنة.

وهنالك أمر آخر، عندما يتعلق الأمر بالموت، هنالك أيضا ما يتعلق بالحياة. إنه لمن أبسط الواجبات تجاه إنسان فاضلٍ مثل الشيخ محمد بن سعود الهنائي، أن يتم الاحتفاء بحياته أكثر من مماتِه، وألا تكون آخر سيرته الموثقة كلها حكايات هذه الجريمة البشعة، أن يتم توثيق أفعاله الخيرة، وأن يُحارب القبح بالجمال، وأن تنتصر المحبة على الكراهية، وأن يهانَ كل من أراد طمس ذكراه، وقتله بتصرف مضاد، يحملُ لأحفادِه سيرته العطرة، وأحيي تحية كبيرة الصديق بدر الهنائي على قصيدته "الشهيد الجديد" نعم، قد نكون كلنا أناسًا عاديين، لسنا شرطة، ولسنا من جهات فرض القانون، وليس بيدنا سوى متابعة الأخبار، ولكن بيدنا شيء كبير، وهو الانتصار لحياة هذا الإنسان، وتوثيقها، وألا ندع القاتل ينتصر، فتبقى فعلته، وتذهب الذاكرة وتفنى، أتمنى كل الأمنيات أن أرى كتابا يحكي سيرة الفقيد، وأن ينتبه أحدهم إلى أن مماتَه المؤلم، لا يجب أن يعني موته من الذاكرة، ففي ذلك موتان، وانتصار للقاتل، وهذا ما يجب على الأحياء فعله، الانتصار لحياته وتوثيقها. رحمة الله عليه، وأحسن الله عزاء عائلته وصبّرهم على مصابهم.