"سائلْ نهاوند" وفن الحماسة للقاضي عيسى الطائي

 

 

ناصر أبو عون

في ديوان قاضي قُضاة مسقط الشيخ عيسى الطائي (1306هـ/1889م - 1362هـ/1943م) تطلعُ شمسُ الشعر، فتجلو صفحة الأفق من ضباب التيه اللغويّ الذي لبَّدَ سماء الفصاحة العربية -بعد أن "استنوق الجمل" في الأرض اليباب، وانبعث أشقياء الكتابة فعقروا ناقة البلاغة بخنجر الحداثة المبتدعة والمدّعاة- وتخرجُ القيمُ الإسلامية من أجداثها، وتنفض عنها غبار المؤامرة المندسة في كتب المتأخرين، وتتوضأ من أوزار المستغربين على منابع نهر الرصانة، وتخلعُ القصائدُ أسمالها، وترتدي حُلل البهاء زاهية بهيّة كما ورثناها من كتب السابقين الأولين، فتشتدّ أعواد المعاني، وتنتصب قامة الفخار، ويستعر أوار الحماسة، وتَستنبتُ الفروسية أشاوسها. ألم يأنِ للذين أمسكوا بأزمة إعداد الأجيال القادمة أن يردّونا مُرغمين إلى ديوان العرب، فتسموا أخلاقنا، ويستقيمُ لساننا، ويشتدّ عودُنا؛ فما أحوجنا اليوم إلى إبداع الأجداد في صورته الأولى، ورصانته المتوارثة.

صورة الشيخ عيسى بن صالح.jpeg
 

فإذا ما دلفنا إلى ديوان الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي، وجدنا فيه من الأصالة المفتقدة، وروح المجد والفخار المبتغاة، ومنهاج الحماسة المندثرة، أمّا إذا أردنا الموازنة بين شعره وإبداع أعلام الحماسة العربية كأبي تمام والبحتريّ، سننتهي إلى أن حماسة الطائي كانت أقرب شَبهًا في معناها ومبناها، ورؤاها وتصوراتها، وطاقتها الشعورية، ومعجمها اللغويّ؛ بل إنها تلتقي مع قصيدة "البحتري" من كل الوجوه، وقد سكّها شاعرنا على ميزان المعاني البحترية، وانماز عن غيره من شعراء جيله بقدرته الفذة على الغوص فيما وراء دلالات الصور، وبلاغة التراكيب، ولا وجهَ البتةَ للتلاقي بين شاعرنا وأبي تمّام الذي أقام قصيدته على تقاسيم وتنويعات وتشكّلات وقوالب القصيدة العربية، ويُنقّب عن الأغراض الشعرية، لتنسج على منوالها، ويلهث وراء عمودها ويستقصي معانيها، على الرغم من غِنى أبي تمام عن هذه الحيل لكونه مشهودا له بالشاعرية من القاصي والداني في سائر الحِقب النقدية العربية سواءً المعاصرة له أو اللاحقة؛ فعلا كعبُه، وارتقى شأنُه، وطغى اسمُه.

سائل نهاوند.jpg
 

 

الحماسة بين الطائي والبحتريّ

ومن مأثور ما كتبه القاضي عيسى بن صالح الطائي على خُطى البحتريّ، وقد جاء فيه مُبدعًا لا مبتدعًا، ومُنَاددًا لا تابعًا، ومسترشدا بمنهجه لا مستقفيا أثره، وساميًا إلى علو هِمّته، ومرتقيًا إلى عنان قِمَّته، ومساويا لسانه، ومطاولا مقامه: [(شاهت وجوه الأعادي حيثما بزغت//شمس الهدى بإمام العدل ذي الظفر)]. ومن نافلة القول في هذا المقام، فإنّ "الحماسة" ليست غرضًا شعريًّا قائمًا بذاته يتضامُّ إلى جانب الأغراض التي انبنى عليها عمودُ الشعر العربيّ والمتوارثة في مدونة الشعر العربيّ منذ أقدم بيت وصل إلينا ينسبه علم تاريخ الأدب إلى "النوار" زوجة "مالك بن سعد بن زيد بن مناة" التي تقول فيه: [(أوْرَدَهَا سَعْدٌ وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ// مَاهكَذَا يا سعدُ تُورَدُ الإبل)]، وإنما الحماسة معانٍ ساقها السياق التاريخي، وصنعها الصراع القبليّ في العصر الجاهليّ، وغذّت جذوتها الفتوحات الإسلامية في الصدر الأول للإسلام، وأَوْرَت نيران بلاغتها الحروب والصراعات الدامية مع الأمم الأخرى في الأعصر الإسلامية التالية، وتأتي على "هيئة محددة ضمن الغرض الذي تنتمي إليه القصيدة، وعلى فضيلة الشجاعة تدور معاني الحماسة، وتقترن بمعاني الشعر العربيّ التي كان النُّقاد قد ضبطوها فيما يُعرفُ بالفضائل الأربع: أي (العقل والعفة والعدل والشجاعة) "(1).

 

الحماسة في رائية الطائي

وتأتي "الحماسة" في سائر معانيها، وأغلب دروبها، داخل نسيج قصيدة القاضي عيسى بن صالح الطائي مضفورةً في معاني الفخر؛ ولا تنفك عنها، ولايمكن سلّها من سياقاتها؛ فموضعها داخل عمود القصيدة وبناؤها المعماري موضعُ الرأس من الجسد، وجُلّ صورها الشعرية تتوشّح برداء الفخر والحماسة، ولا فرق بينهما؛ "فاتصال الفخر بالحماسة ظاهرٌ في القصائد التي تتناول موضوع الحرب والفخر بالانتصارات. وشعر الحماسة من هذا المنطلق يجمع بين معاني الحديث عن الاستعداد للحرب وأحداثها، وصنيع القوم فيها وبين الفخر بشجاعة ومنازلة الفرسان وإقبالهم على ساحة المعركة دون خوف أو تردّد وسرعة الهجوم على الأعداء والنيل منهم بقوة"(2). ومن حُسن المأثور للشيخ عيسى في هذا المعنى قوله: [(لم تَثْنهمْ بارقاتُ البيضِ عن طلبٍ//يستقبلون العِدَا في العَيْثَر العَكِرِ)، (هُمُ هُمُ إن دَهَتْ دَهْياءُ مُظْلمةٌ//جلُّوا دُحَاها بِحَدِّ الصَّارمِ الذِّكْر)].

 

الطائي شاعر الإمامة الخروصية

ومن ثَمَّ، نجد في قصيدة "سائلْ نهاوند" حشدا مُتقصّدًا من القاضي عيسى الطائي لمجاميع من الألفاظ والمفردات المجتزئة من القاموس الشعريّ للبيئة العُمانية، والتاريخ الإسلاميّ وخاصةً تلك التي تشّعُّ طاقة حماسيّة، تأخذ بلُبّ المستمع والقاريء، وتنتقل به من صورة المتفرِّج السلبيّ إلى الإنسان الفاعل والعضويّ. -وإنْ شئنا الدقة في وصفها- قلنا إنّها قصائد كانت في زمانها أقرب في وظيفتها الإبلاغية إلى المنشورات السياسية. ومن بديع ما خطته ريشتُه قوله مُسْتحثًّا العُمانيين في المنطقة الداخلية على التمسك بحبل الله والانخراط في سلك الجهاد والانضمام إلى مُعسكر الإمامة تحت لواء العلامة سالم الخروصيّ: [(ومَنْ يكُنْ عونَه المَولى فلا عَجَبٌ//إنْ أصبحتْ طوعَه الدنيا بلا ضرر)، (وبايعته كرام العرب أجمعهم//لكي يقيموا شعار الدين بالبترِ)].

 

الرؤى الفكرية في رائية الطائي

إنَّ النظريَّة الأسلوبية التي انتهجناها في تحليل قصيدة "سائلْ نهاوند" للقاضي عيسى بن صالح الطائي أفضت بنا إلى وضع أيدينا على أربعة بِنَى فكريّة تتمحور حولها العناصر التكوينية للقصيدة، ويستوي على سوقها "فن الحماسة" على مثال صورته الأولى المتوارثة غير المُدنسة، وهي على النحو التالي:

(أ) الارتكاز على التجربة الذاتية النابعة من المعايشة الواقعية للأحداث ومشاركة رجال الإمامة أحلامهم، ومشاركتهم واقعهم الفكري والعسكريّ، وقدرته الفائقة في بثّ شجونه وآرائه من قلب الحدث، لا عن تصورات خيالية وأمنيات قلبية؛ فقد كان الشاعر أحد الذين بايعوا الإمام سالم الخروصي في "مسجد تنوف"، ومن أنصار منهج الإمامة وأحد أجهزتها الإعلاميّة المروّجة لأفكارها. وفي هذا السياق يقول: [(أَيَا إِمَام الهُدى هُنِّتَ بالظفرِ//والعونِ والفتحِ ما تبقَّى مدَى العُمًرِ)، (ولاتزالُ مدى الأيامِ منتصرًا//على العِدَا مَستقيمَ الحُكْمِ والسِّيَرِ)].

(ب) انطوت التجربة الشعورية للقاضي عيسى بن صالح الطائي في هذه القصيدة على طاقة مُشعة بـ(نستالوجيا) الحنين إلى الماضي الإسلاميّ التّليد، فهو يرى في الإمامة الوجه الآخر للخلافة الراشدة، ومخزونا خصبًا للقيم الإسلامية، ونزعة بعثيّة قادرة على إحياء التراث الدينيّ، وإجلاء الغبار عن الوجه النقي للحضارة العربية المتوارثة من صدر الإسلام، ويمكننا القول هنا بأن هذه الأمانيّ التي بثّها الطائي شجونا في أعطاف قصيدته، كانت مجرد "نوستالوجيا" محمودة صحيّة غير مَرَضيّة. ومن هذا المعنى نقرأ له: [(خير العصور زمان المصطفى وكذا//من بعدهم من أتى يقفو على الأثر)، (حازوا العلوم وحازوا كل مكرمة//لذاك يثني عليهم محكم السور)، (وإنهمُ ضعفوا وهنا فلا عجب//فالشمس يسترها غيم عن النظر)، (إنّ العزيز وإن هانت قواه فلا//يزال في العز ما يبقى مدى العمر)، (والبحر لو ركدت أمواجه زمنًا//فهو الخضم فكن منه على حذر)].

(ج) عبر هذه الرائيّة حشد القاضي عيسى الطائي الكثير من الرؤى والتصوّرات الماضويّة الشعريّة، والصور العقائدية المستقاة من التراث الإسلاميّ داخل سياجها، وتوسّل بالتّناص داخل سياقها مقدودًا من النصّ القرآنيّ لفظا ومعنى؛ واعدا شهداء المعارك بالخلود المقيم والحور العين في جنات النعيم. ومن روائع تصويره لهذا الموقف الأُخرويّ: [(وابذلُوا النفسَ في إعلاءَ دِينكمُ//فللجهادِ ثوابٌ غيرُ مُنحصرِ)، (حورٌ نواعمُ في الفردوسِ قاصرةٌ//للطرفِ مقصورةٌ كالبيضِ في الخُدُرِ)، (على قصورٍ من الياقوتِ في غُرفٍ//من الزبرجدِ في روضٍ على سُرر)، (وكمْ لَهُم من نعيمٍ غيرِ مُنقطعٍ//في جنّةِ الخُلدِ في مُلْكٍ بِلا كَدَرِ)].

(د) جاءت قصيدة (سائل نهاوند) للقاضي عيسى الطائي كوثيقة تاريخية، وصورة واقعية للصراع على السلطة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ عُمان؛ بل يمكننا القول بأن هذه القصيدة كانت مرآةً صادقة، وبلا رتوش تجميلية وتحكي وقائع 7 سنوات من تاريخ دولة الإمامة، وأنَها – القصيدة - بمثابة كلمات مفتاحية تقودنا للإجابة عن تساؤلات كثيرة مازالت غامضة حول هذه الحقبة التاريخية، ومازالت الإجابات عنها أيضا غائمة أمام القراء والباحثين؛ مما يستوجب مطارحتها للنقاش على مائدة البحث العلميّ وتدارس سياقها التاريخي.

 

الصور الشعرية في رائية الطائي

في رائية القاضي عيسى بن صالح الطائي رصدنا العديد من جماليات الإيقاع البصريّ التي اتكأ عليها الشاعر في التراسل والتواصل مع المستمعين والقراء؛ فلاحظنا الصور الشعرية تترى، وتتناسل وتتلاحق في صراع دراميّ، وإحصائيًا كانت السّيادة على المساحة الأكبر في قماشة النص لثلاثة أنواع من الصور، هي: (البصريّة، والسمعيّة، واللمسيّة)، وقد أحسن الشاعر توظيفها والتنقل عبرها بالقارئ والمستمع ما بين المجرد والمحسوس، في إطار دراميّ تصويريّ يتوسّل بتقنية السَّرد تارةً، والمنولوج الداخليّ تارةً أخرى، ويصعد بنا تدريجيا إلى قمة الصراع، ويستحضر الجموع الشعبية داخل قلب الحدث، ويستنطق التاريخ على ألسنة الشخصيات.

(1) الصورة البصريّة

يأخذنا القاضي عيسى الطائي إلى مشهد واقعيّ من مشاهد المعارك التي خاضها جنود الإمامة وجموعهم التي تترى ذرافاتٍ ووحدانًا من كل فجّ عميق في عُمان، ومن كل بطن في قبائلها لتلتحق بمعسكر الإمامة؛ ومن هذه الصور الثرّة المشعة بالطاقة الحماسيّة، يقول: [(ليث إذا اشتعلت نار الحروب علا//سيفا يفلِّق هام الأصعب البطر)، (ليوث غابٍ لدى الهيجا بحور ندى//للمعتفين كرام الضرب بالشرِ)، (بذلوا نفوسهم ولظى الهيجاء في سُعر)]؛ ففي هذه الأبيات قد علا كعب الصورة على الفكرة، وتراوحت بين التشبيه البليغ في أجلّ صوره، والاستعارة في بهاء تمثّلاتها، والكناية في كثافة معانيها، وبراعة التنويع بين المجرد والمحسوس، والمرئي والباطنيّ، حيث"ينقل الشاعر ما يراه إلى المتلقي، ذاكرا أوصافه وأحواله المرئية أو يبرز أمرًا عقليا في صورة آخر مرئي ويذكر صفاته اللونية أو الشكلية"(3).

(2) الصورة السمعية

جاءت الصورة الشعرية في الأبيات التالية لتصوّر لنا في مشهد أقرب ما يكون إلى الصراع الدراميّ في غنائيته، يتوسّل فيه الشاعر عيسى الطائيّ بتقنية السَّرد الذي أسهم في جلاء غموض الفكرة، وأخذنا في معيته لنتخيل بصحبته صورة العلامة الفقيه نور الدين السالميّ (ابن حميد)؛ وهو يلهجُ على المنابر وبين ظهرانيّ تلاميذه ومريديه بحُلم إقامة إمامة عادلة على مثال الخلافة الراشدة، ويدعو لها في المحافل، ويحثُّ أهل عُمان في منظوماته وخُطبه، ودروسهة على مساندة الإمام سالم الخروصيّ في تثبيت أركان حكمه.

ومن بليغ ما قرأنها للقاضي عيسى الطائي: [فقام بالجد بحر العلم قدوتنا//فتى حميد لجمع البدو والحضر)، (لازال يخطبهم في كل مجتمع//لكي يكونوا يدا في النفع والضرر)، (لبّاه قوم من العرب الكرام بهم//نور الهدى يزدري بالشمس والقمر)، (أتى تنوف برهط هم بحور ندى//ليوث غابٍ من أهل الطين والوبر)]، وفي هذا المثال استطاع بحُنكته "توظيف ما يتعلّق بحاسة السمع، ورسم الصورة عن طريق أصوات الألفاظ، ووقعها في الأداء الشعري واستيعابها من خلال هذه الحاسة مفردة أو بمشاركة الحواس الأخرى مع توظيف الإيقاع الشعريّ الخارجي والداخلي لإبلاغ المتلقي ونقل الإحساس إليه"(4).

(3) الصورة اللمسية

يستطيع القارئ المتأني والسائر على هُدى مع دفقات "سائل نهاوند" بييتًا بيتًا أن يَعثُر على نماذج هذه الصورة متناثرة في مواضع شتى من القصيدة؛ فهي بمثابة نجوم لامعة تضيء عتمة المشهد الدراميّ، وتنقلنا من المجرد إلى المحسوس، وتعبرُ بنا من المعاني الباطنة الخفيّة والجوانيّة إلى براح الظاهر وتجسُّدهِ؛ ومنها قوله: (جلّوا دُجاها بحد الصارم الذكر)، (هم سيوف رقاق الشفرتين إذا)، (دارت رحى الحرب قدُّوا هامة الأشر)، (وبايعته كرام العرب أجمعهم)، (لكي يقيموا شعار الدين بالبتر). وهذه الصورة اللمسيّة تشكّلت "من طريق حاسة اللمس وبها يُدرك الجمال وبواستطها يمكن استحضار صفة المدركات الحسيّة كالنعومة والخشونة والبرودة والطراوة والليونة والحرارة؛ فهي تقرب المعنى وتوضّح القصد لكونها تحوي ألفاظا دلالية موحية، تعبر عن إبداع الشاعر"(5).

 

البنية الإيقاعية في رائية الطائي

فضلا عن وجود الإيقاع الداخلي بين تضاعيف الأبيات الشعرية، إلا أنَّ الإيقاع الخارجي كانت له سطوة بادية تواكب النبرة الحماسية الطاغية، فجاءت قافية الراء المكسورة بجرسٍ مُوسيقيٍّ هادرٍ يُشبه ركض الخيل في بعض الأبيات، ويصوِّر ثورة المشاعر الفياضة، والهامسة تارةً والصاخبة تارةً أخرى، ومرةً تضفي القافيةُ قوةُ وصرامةً وحدّةً على الطقس العاطفي داخل القصيدة، ومرة تُوحي بالضعف والوهن.

ومن السمات البارزة في "سائلْ نهاوند" نجد براعة التصوير باستخدام صوت الراء والتعبير عن حالات متضادة، وصور متقابلة؛ فرضتها الطبيعة الدرامية والحماسية للقصيدة، واقتضاها التطور التدريجيّ للصراع المحتدم؛ ففي مواضع القوة والصولة والبطش والانتصار والثورة، وعُلوّ الهمة يأتي القاضي عيسى الطائي بحرف الراء على معانٍ أربع هي: (التفخيم والجهر، والتكرار والانحراف)، كما نقرأ في مطلع القصيدة [(بالمشرفية والخطِّية السُّمر//ساد الألى سلفوا في سالف العُصُر)، (ودوَّخوا الأرض حتى أصبحت لهم//طوعَ البنان وأمسى الشرك في خَوَر)، (سادوا ذُرى المجد فوق النجم واتخذوا//كيوان معقلهم يا نعم مفتخري)، (سائل نهاوند واليرموك ما فعلت//فيها السيوف لديها صحةُ الخبر)]، وفي مواضع الضعف، يوظّف الطائي الراءات الدالة على الوهن والخور والهزيمة مثل: (الترقيق، والاستفال، والانتفاخ)، ومن هذا المعنى قوله: (أضاء نور الهدى في فتية لهم//حسن اقتداء بهدي السادة الطهر)، (ومن تكن سبقت في العلم خيرته//هدي سبيل أولي الألباب في السير)]، ونادرا ما كان يستخدم الراء الدالة على (الإذلاق)، ولا نعثر على وجود لها إلا في المناطق التي يخفت فيها الصراع، وغالبًا نعثر عليه في المنطقة الوسطى ما بين المعاني الدالة على القوة والمعاني المُعبرة عن الضعف. ومنها قوله: [(خير العصور زمان المصطفى وكذا//من بعدهم من أتى يقفو على أثر)، (حازوا العلوم وحازوا كل مكرمة//لذاك يثني عليهم محكم السور)، (وإن همُ ضعفوا وهنا فلا عجبٌ//فالشمس يسترها غيمٌ عن النظر)].

وعلى صعيد البحر الشعريّ نجد الشاعر عيسى الطائي يتوسل بـ"البحر البسيط" في بناء العمود الشعريّ، وهو من الأوزان الطويلة، حيث يُسهم مع أخواته "الوافر والكامل والطويل" في إثراء محتوى القصائد الحماسية بزخم من الدلالات، واستيلاد العواطف من تفاعيلها، وذلك لما تتمتع به هذه البحور من "رحابة إيقاعية، وموسيقى متدفقة تتناسب مع الطبيعة الإنشادية للشعر الحماسيّ وتساعد على الاسترسال وطول العبارة؛ فالشاعر الحماسيّ يجد نفسه مع الأوزان الطويلة ذات الاتساع الإيقاعيّ يتحرك بشكل مريح؛ فيعرض أفكاره، ويعبّر عن نفسه، ويخاطب متلقيه كما يحلو له دون أن يضطر إلى حل المشاكل العويصة التي تطرحها الأوزان القصيرة"(6).

أمَّا من حيث الخبر والإنشاء، فقد لاحظنا مدى طغيان الأسلوب الخبريّ على مساحة واسعة من القصيدة، واستبان الأسلوب الإنشائي في هذه القصيدة -والتي تُعد من المطولات في ديوان الشاعر عيسى الطائي- على خمسة مواضع تنوعت ما بين الأمر والنداء، بينما جاء الاستفهام على ضرْبٍ واحدٍ خفيٍّ محذوفة أداتُه، ولا يستبينه إلا القارئ الفطن الذي لديه دُربّة باللغة وعلوم البلاغة والنحو من خلال التأويل والتقدير النحويّ المُضمر في الإجابة ومنه قوله: [(وجاء عيسى أمير الشرق يتبعه//قوم كرامٌ) فإنْ سألتَ: مَن هُم القوم الكرام؟ جاء الجواب في تكملة البيت وما تلاه من أبيات مُعدّدًا الشاعرُ صفاتهم فابتدأ القول: بـ(همُ من خيرة البشر)، ثم توالى التعريف في الأبيات التالية، وقد تحقق من هذا الاستفهام أمران دار عليهما مدار علماء النحو والبلاغة في جُلَّ العصور؛ "أمّا الأول فهو التصديق: وهو إدراك النسبة أو الحكم أو العلاقة القائمة بين المسند والمسند إليه، وأمّا الثاني فهو: التصوّر المتعلّق بإداراك أحد أجزاء الجملة"(7). وكان الغرض من الاستفهام في هذا البيت (التقرير) حيث حَمَلَ الطائي السامعين على الإقرار والاعتراف بما استقرّ في نفسه من استواء الأمر للإمامة العادلة، وبسط نفوذها بما حققته من انتصارات على أيدي جنودها، ورجال القبائل التي التفتْ حول الإمام سالم الخروصي، وعقدت له البيعة، وانضمت إلى كتائبه، وخاضت معه غمار معاركه، وحققت معه الانتصارات المتوالية في (نزوى ومنح وسمائل وسائر الولايات التي أخضعتها الإمامة لنفوذها.

وقد آثر الشاعر الاستفهام الخفيّ هنا على ما عداه من أساليب إنشائية؛ لأنه "أوقع في النفس وأدل على الإلزام، وثبُت في ذهن السامعين على معنيين الإقرار والتأكيد"([ ]): أمّا الأول، فهو طلب الإقرار من المخاطبين بعلو كعب إمامة الخروصي على منازعيها في الأمر، وأمّا الثاني التأكيد على قدرة رجالها من أبناء حمير وبني حكم، وأولاد عيسى وبني رواحة، ورجال أحمد في الرستاق، وأتباع الشيخ ناصر من بهلا، وكرام العرب والبدو الذين توافدوا من كل حدب وصوب في أرض عمان، وأروا الناس شدة بأسهم في المعارك؛ فدانت لهم الزعامات، وفُتحت على أيديهم الولايات.

....

الإحالات:

(1) الأبعاد الثقافية في شعر الحماسة وفن الشيلات، د. شريفة بنت إبراهيم بن طالب، كلية التربية بالدمام، السعودية.

(2) النص الأدبي القديم، د. راضية لرقم، جامعة الأخوة منتوري، الجزائر 2020، ص: 126.

(3) الصورة الفنية في الشعر العربي، عبد الرحمن الغنيم، الشركة العربية للنشر والتوزيع، ط1، ص: 89، القاهرة

(4) الصورة السمعية في الشعر العربيّ قبل الإسلام، صاحب خليل إبراهيم، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص:21، 2000

(5) الصورة الفنية في الشعر الأندلسي، محمد ماجد مجلي الدخيل، دار الكندي، عمّان، ص: 70، 2006

(6) الخصائص الأسلوبية في شعر الحماسة بين أبي تمام والبحتري، أحمد صالح محمد النهمي، أطروحة دكتوراه 2013

(7) انظر: الاستفهام البلاغي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، هيثم الثوابية، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد: 41، ملحق: 1، 2014.