المدينة الذكية المتكاملة

هند الحمداني

هذا صباح 2040، وأنت تجلس في الشرفة تتناول فطورك المحلي وتلقي نظرة على شارع المدينة المطل وهو ينظِّف نفسه ذاتيا، تفتح هاتفك تتصفح أخبار مدينتك وتتحقق فيها من معدل الطاقة التي استهلكتها في الليلة الفائتة ومن حركة المرور في الشوارع، تفتح إحدى التطبيقات الذكية وتحجز سيارتك الكهربائية التي تقود نفسها إليك، ثم تحتسي آخر رشفة من فنجان قهوتك لتجدها بعد أقل من دقيقة بانتظارك.

مدينتك الذكية المستدامة التي تمتلك القدرة الحقيقية على التواصل معك ومع مواطنيها وتكيف جميع الموارد والخدمات مع متطلباتهم المتغيرة واحتياجاتهم المتطورة والتي تستعمل الشبكات الذكية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحقيق رضا السكان والاستدامة لحياة صحية وسعيدة وأكثر كفاءة للأجيال الحالية والقادمة.

يمكن لنا تشبيه عمل المدينة الذكية بالجسد الواحد، حيث تُمَثَل المنشآت المختلفة والأنشطة المتنوعة بعضلات الجسد، وجميع الطرق والمسالك تعمل عمل الأوردة والشرايين بالجسد من حيث حركة المرور والناس وتوصيل البضائع، ولدينا المناطق الخضراء الممتدة والمنتزهات والتي تقوم بدور الرئة التي تنقي الهواء وتمد المدينة بالأكسجين، أما الحواس الخمس في أجسادنا والتي تُعنى بإرسال البيانات إلى الدماغ فنستشعر ما يحدث في البيئة الخارجية وتعطي إشارات للعقل ليستجيب للمؤثرات الخارجية والتي يقابلها في المدن الذكية أجهزة الاستشعار والكاميرات الذكية لجمع البيانات ومن هذه البيانات يمكن مساعدة المدينة على الاستجابة والتأقلم وذلك باستحداث تطبيقات ذكية تواكب حياة الناس اليومية.

ما هي مواصفات المدينة الذكية التي نتطلع إليها؟ وهل يجب أن تكون المدينة كبيرة لكي تصبح ذكية؟ وهل يكفي أن تكون ذكية أم نريدها مستدامة؟

اليابان لها تجربة رائعة للمدن الذكية المستدامة وذلك لأن 92% من إجمالي السكان اليابانيين يعيشون في المدن مما اضطر الدولة إلى التوجه لإنشاء المدن الذكية المستدامة، وتشكل مدينة فوجي ساوا الذكية المستدامة والتي بنيت على انقاض مصنع قديم لشركة باناسونيك نموذج رائع للمدينة الذكية الصديقة للبيئة والتي جعلت السكان والإنسان الاعتبار الأول في تأسيسها حيث وضع المخططون خطة مدتها 100 عام تشمل كل نواحي الحياة من الطاقة والصحة والتنقل والأمن وحالات الطوارئ وركزت على تحسين الأهداف البيئية وتوفير المياه واستخدام الطاقة المتجددة، فكل منزل مجهز بألواح شمسية وأنظمة مراقبة ذكية يتيح ذلك للمقيمين تتبع استهلاكهم للطاقة على مستوى الأسرة أو المدينة ككل، ومراقبة الناس لمعدلات الاستهلاك يشجعهم لأن يكونوا أكثر حذرا بشأن الإجراءات الصديقة للبيئة، وتخصيص مكافآت لتشجيعهم على ركوب الدراجات الهوائية واستخدام المركبات الكهربائية لتقليل مستويات ثاني أكيد الكربون، والأهم من ذلك خطة التعافي في حالة وجود كارثة طبيعية، حرصت فوجي ساوا على أن تكون المدينة مستقلة في الطاقة والكهرباء والطعام لمدة 3 أيام على الأقل، وذلك لوجود مركز القوة في المدينة الذي يشتمل على أكبر أنظمة تخزين الليثيوم في اليابان بالإضافة إلى المولدات التي تعمل بالطاقة الشمسية والغاز.

5.0 هو مفهوم أطلقته اليابان على استراتيجيتها الجديدة في إنشاء المدن الذكية وفكرته الأساسية هي مدن ذكية تتمحور حول الإنسان، كمدينة كاشي وانوها الذكية فهي لا تقدم فقط أحدث التقنيات بل تحرص أن تمكن السكان من إتقان هذه التقنيات لبناء مكان يشعر فيه الجميع بالراحة والرضا، فأنشأت مركز التصميم الحضري وهو المكان الذي يساعد السكان في التعرف على مدينتهم الذكية والارتباط بها كمجتمع من خلال ورش العمل وحاضنة للشراكات بين المنتفعين بالمشروع من العامة والخاصة والأكاديميين إيمانا منهم أن التعاون والتكامل هو الأساس الذي تقوم عليه المدن الذكية.

وفي ظل توجه حكومتنا الرشيدة للاستثمار في إنشاء المدن الذكية كان حَرياً بنا الاطلاع على تجارب الدول السباقة في مجال تطوير وتخطيط المدن الذكية المستدامة والاستفادة من الخبرات وأهم النماذج الفاعلة على مستوى العالم، واستخلاص نموذج لمدينة ذكية مستدامة تلائم طبيعة الإنسان والبيئة والأرض، وترتكز استراتيجية المدينة الذكية المتكاملة حول عدة محاور أساسية أهمها البنية التحتية الرقمية والمناطق الخضراء والطاقة والنقل المستدام، والتعليم، والطعام والنفايات.

تعد البنية التحتية الرقمية المحور الأساسي الذي تُبنى عليه المدن الذكية، والذي يقوم على جمع البيانات وتحليلها وإدارتها وذلك بزرع كاميرات المراقبة الذكية وأجهزة الاستشعار في كل زوايا المدينة والطرقات والمباني، وربطها بإنترنت الأشياء لجمع البيانات ودمجها وتحليلها ومشاركتها مع الأجهزة والجهات المختلفة لتحسين الأداء وجودة الحياة ولتعزيز كل مناحي الحياة في المدينة، أيضا يستخدم المصممون والمخططون هذه البيانات الرقمية لإنشاء نموذج حاسوبي ذكي يحاكي بيانات تيارات الهواء بالمدينة وبيانات الظلال الأولية التي تتحرك من الصباح إلى المساء ومقدار الأشعة الشمسية التي تصل إلى أسطح المباني ومناطق سطوع الضوء، وبتحليل كل هذه البيانات يستطيع المصممون تعديل المباني وتوزيع المنتزهات لتحسين تيارات الهواء والحصول على هواء أبرد في المدينة أو وضع فجوات في المباني لتحسين تدفق تيارات الهواء والحصول على تهوية طبيعية خاصة في مركز المدينة، أيضا يساعد المعماري على تحديد مواقع الحدائق والمنتزهات ومناطق تناول الطعام الخارجية والملاعب ومراكز رعاية الأطفال حيث يفضل وضعها في مناطق الظل، وبتحديد مناطق سطوع الشمس نحدد أماكن وضع الألواح الشمسية، كل هذه البيانات تساعد المعماري على تصميم المدينة ليس فقط جمالياً بل أيضا لضمان فعالية التصميم وكفاءته.

يسعى المصممون الحضريون إلى تحسين جودة الهواء داخل المدن الذكية من خلال توفير مساحات خضراء ممتدة مثل المنتزهات وبرك الحدائق والأراضي الحرجة، حيث يمكن للحياة النباتية امتصاص الكربون من الهواء وتحويله إلى أكسجين مما يوفر موطنا للحياة البرية ويؤدي إلى تنوع الحياة البيولوجية وخفض درجات الحرارة، كما يوفر مساحات علاجية للسكان وتحسيناً للصحة العقلية، وهنا نستعرض تجربة فينا النمسا حيث تقود أفضل مؤشرات الصحة العقلية وذلك بتوفيرها المساحات الخضراء في المدن مما يضمن لسكانها الحق في مساحات خضراء مفتوحة عالية الجودة، حيث تم تخصيص 50% من المدينة لهذا الهدف، وتنتشر مساحاتها الخضراء عبر 2000 منتزه بالإضافة إلى الغابات والأراضي الزراعية، كما تستضيف فيينا 135 سوق للمزارعين كل عام لبيع المواد الغذائية ومنتوجات المناطق المحيطة مما يساعد السكان على خفض بصمتهم الكربونية عن طريق شراء مكونات من مصادر محلية.

تستهلك المدن على مستوى العالم ثلاثة أرباع طاقة العالم وهي مسؤولة عن 80% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والغازات الدفيئة مثل غاز ثاني أكسيد الكربون والتي تتكون بسبب إنتاج الطاقة من مصادر الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز)،لذلك توجب على الحكومات التوجه لإنتاج الطاقة المستدامة من مصادر طبيعية لديها القدرة على التجدد بمعدل يفوق استهلاكها كأشعة الشمس والرياح والطاقة الحرارية الأرضية المتوفرة في باطن الأرض والطاقة الكهرومائية والطاقة الإحيائية وغيرها، وتعد إجراءات سلطنة عمان في اعتماد عام 2050 م موعدا لتحقيق الحياد الصفري الكربوني هي أهم خطوة في سبيل تعزيز مصادر الطاقة المتجددة النظيفة والمستدامة، وتعتبر مدينة كوبنهاغن في الدنمارك مثال جيد لاستغلال الطاقة المتجددة حيث تستخدم امدادات الطاقة الخاصة بها بطرق ذكية ومستدامة، مثل نظام تدفئة المناطق الذي يعمل من خلال التقاط الحرارة الزائدة من إنتاج الكهرباء والتي يتم توزيعها بعد ذلك إلى شبكة من الأنابيب والتي تتكفل بتوفير الحرارة إلى 90 من المنازل داخل مدينة كوبنهاغن، وأيضا نظام تبريد المناطق وهو نظام مماثل يستخدم الطاقة المهدرة بطريقة ذكية لتبريد المنازل.

المعرفة والابتكار والتقدم هو الأساس الذي تتمحور عليه فكرة المدن الذكية، ومن هذا المنطلق فإن التعليم الذكي المستدام يشكل الأرضية التي يجب أن لا يتجاوزها المصممون الحضريون والمعماريون، المدن الذكية تحتاج إلى جامعات ذكية تتوافق مع النقلة المعرفية والنوعية التي يزدهر بها المجتمع الذكي، الجامعة الذكية تستدعي وجود برنامج متكامل لابتكار المناهج التي تطرحها الجامعة، فهي تستوجب ابتكار مناهج غنية ومتنوعة تسمح لمنتسبيها بمحاولة تأطير مستقبل مسؤول للتنمية المستدامة عندما يتخرجون في سياق تخصصاتهم دون أن يسلبوا أساسيات تلك التخصصات، بالإضافة إلى توافر البنية التحتية الجامعية المستدامة والتنوع البيولوجي الغني داخل الحرم الجامعي، وتعزيز النقل المستدام مثل النقل العام بالحافلات الكهربائية وتحفيز ركوب الدراجات بتوفير خدمات التخزين الآمن للدراجات وخدمة صيانة الدراجات وطرق آمنة ومريحة للمشي، وتركيب مصابيح موفرة للطاقة وألواح شمسية وإنشاء مزرعة شمسية داخل الحرم الجامعي، والتأكيد على أهمية الممارسات المستدامة وذلك بالتعاون مع منتسبي الجامعة من طلبة وأكاديميين وموظفين وعمل سلسة من المنتديات والبحوث والمؤتمرات المفتوحة التي تدعم وتعزز أهداف التنمية المستدامة وتعريف المجتمع بأهمية المشاركة المجتمعية في النهوض بالمدن الذكية وازدهارها.

وتشير الدراسات إلى أنه وبحلول عام 2050 سيحتاج العالم لإنتاج ضعف كمية الغذاء مع تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بمقدار الثلثين لمكافحة النمو السكاني السريع، لذلك يجب أن تركز المدن على أساليب وطرق جديدة لإنتاج الغذاء، بحيث نعزز مفهوم الأطعمة المحلية المستدامة لدى سكان المدن، وأساليب الزراعة الحضرية المحايدة للكربون باستخدام "حدائق الكيس" وهي عبارة عن خلق مساحات زراعية صغيرة داخل أكياس صناعية قديمة، كالذي تشهده مدينة هلسنكي في فنلندا حيث تتمتع بتراث غني من الزراعة الحضرية المستدامة يعود تاريخها إلى 1918م وفيها تجد تخصيصات زراعية في جميع أنحاء المدينة وممكن تأجيرها للمقيمين أيضا.

إدارة النفايات بطرق مبتكرة وذكية والاستثمار فيها يعد أمرا ضروريا في عملية الاستدامة للمجتمعات في المدن الذكية، وذلك بتحسين أنظمة إعادة التدوير كمعالجة مياه الصرف الصحي والنفايات المنزلية واستخدام مواد التنظيف العضوية والمنتجات الخضراء وإعادة تدوير النفايات ذاتياً، ومثال ذلك مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة وضعت سياسة عامة جريئة ومبادرات تعليمية دعمتها في تحويل 106 ملايين طن من النفايات من إعادة تدوير مدافن نفايات المدينة، وهي أول مدينة في الولايات المتحدة تحظر الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، وإعادة تدوير السماد وإعادة الاستخدام بشكل أكبر حتى لا ينتهي الأمر بأي شيء في مكب النفايات.

المدن الذكية المتكاملة لم تعد اختياراً للبشرية بل أصبحت ضرورة ثورية وحاجة ماسة لمواجهة تغيرات المناخ والنمو السريع للسكان، ولذلك استوجب على المصممين والمؤسسيين لمدننا الذكية أن يضعوا نصب أعينهم ليس فقط التقدم التكنولوجي والرقمي الهائل وإنما أيضا الإنسان الذي سوف يعيش ويتكيف مع مدينته الذكية، وأن تُبنى المدينة بتخطيط يجعلها تصمد في وجه تغيرات الحياة لحقب زمنية متتالية بكل جهوزيتها للتعامل في حالات الطوارئ أو الكوارث الطبيعية منتجةً غذائها ذاتياً ومجددةً طاقتها بشكل مستدام.

تعليق عبر الفيس بوك