أ. د. حيدر أحمد اللواتي *
منذ أن وُجِد الإنسان على ظهر هذه البسيطة وهو يحاول أن يكشف سر الجمال الذي يشاهده، فما سر خضرة النبات وزرقة السماء؟ وما هو بياض الثلج؟ وما هو الماء الرقراق الذي يسيل في الأنهار؟ كل هذه الأسئلة وغيرها حاول أن يجيب عليها عبر قرون من البحث والملاحظة.
وفي القرون الأخيرة، توصلنا إلى إنجاز فريد من نوعه وهو أن كل جمال المظاهر الطبيعية التي نشاهدها من حولنا هو نتيجة 92 عنصرا من العناصر الكيميائية، فما نشاهده في الطبيعة يمكننا -ولو جزئيا- أن نختزله بهذه العناصر وتراكيبها وتفاعلاتها المختلفة، وقد قمنا بجمع هذه العناصر في جدول أسميناه الجدول الدوري، وأضفنا إلى هذا الجدول الدوري عددا من العناصر الكيميائية التي استطعنا أن نصنعها في المختبرات ولم نشاهد لها مثيلا في الطبيعة ليبلغ مجموع تلك العناصر الكيميائية ١١٨ عنصرا.
وتضمُّ العناصر الكيميائية ذرات من صنف واحد، وتعد هذه الذرات أصغر وحدات المادة، وهي عبارة عن نواة داخل الذرة وإلكترون يدور في مدار حولها، وتختلف هذه العناصر عن بعضها باختلاف ذراتها، فعنصر الهيدروجين، أول عناصر الجدول الدوري، يحتوي على جسيم موجب الشحنة يتواجد في النواة وهو البروتون وإلكترون خارج النواة يحمل شحنة سالبة، بينما عنصر الهيليوم، ثاني عناصر الجدول الدوري، يحتوي على نيوترونين وبروتونين داخل النواة والكترونين خارجها، واذا نظرنا إلى عنصر الكربون، سادس عناصر الجدول الدوري، مثلا لوجدنا أنه يتكون من ستة بروتونات وستة نيترونات وستة الكترونات، أما ذرات عنصر اليورانيوم آخر العناصر الطبيعية المتواجدة في الكون فتتكون من 92 بروتونا و92 نيترون و92 إلكترون، وهكذا نجد أن العناصر بدءًا من الهيدروجين وانتهاء بعنصر اليورانيوم تبدء بعنصر بسيط وتنتهي بعنصر معقد يحتوي على أعداد كبيرة من البروتونات والنيوترونات والإلكترونات.
وتشير الأدلة العلمية إلى أنَّ عنصري الهيدروجين والهيليوم تكونا في بدايات نشأة الكون، لكن الكون كان خاليا من بقية العناصر الكيميائية، ولذا فقد تساءل العلماء عن كيفية تكون بقية العناصر الكيميائية، فكيف وأين تكونت؟
لقد اتضح لنا أن مصدر هذه العناصر هي النجوم التي تتلألأ في السماء وتنير لنا الليالي المظلمة، فهذه النجوم مختبرات الطبيعية التي أنتجت لنا هذه العناصر الكيميائية!
فالنجوم عبارة عن تجمع غازي كثيف، وقد لعبت قوى الجاذبية دورا رئيسيا في تكونها، فكلما تجمعت الغازات شكلت كتلة كبيرة وهذه الكتلة التي تكونت تمتلك جاذبية كبيرة جعلتها قادرة على جذب مزيد من الغازات، وكلما اقتربت ذرات الغازات من بعضها ازدادت قوة الجاذبية وهكذا كان يغذي أحدهما الآخر ونتج عن ذلك ضغط شديد وارتفاع كبير لدرجات الحرارة تماما كما يحدث في إطار السيارات إذ ترتفع درجات الحرارة كلما ازداد الضغط ونتج عن ذلك تلاحم ذرات غاز الهيدروجين منتجة غاز الهيليوم وهذا التلاحم أسميناه الاندماج النووي.
وصاحب الاندماج النووي حرارة عالية وانفجار ضخم ولَّد قوى دافعة تعمل بعكس اتجاه الجاذبية، وهذا التوازن بين القوى الجاذبة وبين القوى الدافعة هي التي شكلت النجوم، فالنجوم ماهي إلا تجمع كثيف جدا للغازات نتيجة قوى الجاذبية وانفجارات نووية تعمل ضد قوى الجاذبية واللمعان الذي نشاهده هو في واقعه انفجارات نووية ضخمة!
وهناك صنف من النجوم تعرف بالعملاقة وهي نجوم تفوق كتلة شمسنا بمئات المرات، ولكي تتصور ضخامة حجمها، فيكفي أن تعلم أن كتلة شمسنا تقدر لـ2 مضروبا في 10 مرفوعا لأس 30 كجم، بينما هذه النجوم العملاقة فتصل كتلتها إلى مئة ضعف كتلة شمسنا!
إن هذه النجوم العملاقة هي التي أسهمت في إثراء الكون، فلقد كانت للاندماجات النووية في مركز هذه النجوم أهمية بالغة، فلقد أنتجت لنا عددا من العناصر الأخرى كالكربون والأوكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت وغيرها، لكن الاندماجات النووية تتوقف عند انتاج الحديد؛ لذا فعندما يتم إنتاج الحديد بكثرة، فإن النجم يندك ويتهشم ويقذف بقاياه في جميع الاتجاهات في الفضاء ناشرا مختلف العناصر الكيميائية المتكونة في انفجار ضخم ومهول مطلقا طاقة جبارة لا مثيل لها، وتعرف هذه الانفجارات بالسوبر نوفا.
لكن عناصر الجدول الدوري لا تتوقف عند الحديد، بل تمتد لتصل إلى اليورانيوم، فأين تكونت بقية العناصر الكيميائية؟
إنها تتكون عندما يصطدم صنف آخر من النجوم نسميه النجم النيوتروني بآخر من نفس الصنف، فهذا التصادم يولد طاقة مهولة كافية لإنتاج بقية العناصر الكيميائية.
ولكي نتصوَّر ضخامة هذه التصادمات والطاقة الجبارة الناتجة عنها، فيكفي أن نعلم أن من آثار هذا التصادم ما يعرف بالأمواج الثقالية، وهذه الأمواج الثقالية شبيهة بالزلازل الأرضية لكنها زلازل كونية؛ فالكون ذاته يهتز اهتزازا عنيفا؛ بحيث أن نسيج الزمكان بذاته يموج كما يموج البحر عند حدوث الأعاصير، في هذه البيئة تكونت بقية العناصر الكيميائية للجدول الدوري!
إنَّ العناصر الكيميائية من غير الهيدروجين والهيليوم تشكل 1% فقط من المادة التي نشاهدها من حولنا، لكن الجمال وفسيفساء الألوان التي تزين هذا الكون وتزين عالمنا يرجع الفضل فيه إلى هذه العناصر والى هذه النجوم التي شكلت مختبرات الطبيعة الأولى التي انتجت لنا صنوف المادة بأشكالها المختلفة.
تذكَّر وأنت ترفع رأسك إلى السماء في ليلة ظلماء تزينها النجوم اللامعة بأنك تنظر إلى مختبرات ضخمة تقوم بإنتاج عناصر الجمال الذي تشاهده من حولك! إن علوم الطبيعة كما تفضلت علينا بالرفاهية التي نعيشها أثارت عقولنا وأشبعت جزء من فضولنا حول هذا الكون، وأشارت بيدها بكل خضوع وتذلل إلى قدرة العليم الحكيم.
---------------
لمزيد من المعلومات يمكنك الاطلاع على المصادر التالية:
1- عجائب العلوم، حيدر أحمد اللواتي.
2- بداية المالانهاية، باسم حمادة.
3- سبعة أعمدة للعلم: خفة الثلج المذهلة ومفاجآت علمية أخرى، جون جريبين، ترجمة رشا صلاح الدخاخني.
* كلية العلوم - جامعة السلطان قابوس