"معادلة العصر".. دولة غنية وشعب فقير

 

 

علي بن سالم كفيتان

باتت مُعادلة "دولة غنية وشعب فقير" هي الصفة الأبرز في عالم اليوم، من واقع الفكر الرأسمالي الذي بسط نفوذه وفكره، وكيَّف كل الممكنات لسيطرة رأس المال الأعمى البعيد عن القيم الإنسانية على العالم، مما أفرز شعوبًا وأممًا ترزح تحت خط الفقر، بينما الأقليات الغنية تستمتع بالخيرات وتحصل على المميزات، والبقية يتنفسون من خلال ثقب صغير ينازعون البقاء الممزوج بحياة باتت أقرب إلى الموت؛ فلو نظرنا لكثير من الدول في خارطة العالم، سنجدها غنية بمواردها التي حباها الله بها دون تدخل الإنسان، بينما شعوبها تمشي على حافة الفقر يُغطيها الجهل وينهشها المرض وتتنازعها الديون والعوز، إنها المعادلة الأكثر مرارة، تلك التي تقوم على كبح الطموح للرفاه والعيش الكريم بفرض الضرائب والمكوس، فيصبح الإنسان كالنحلة في خلية نحل، تكد طوال نهارها لجلب الرحيق لتصنع العسل، ثم يأتي صاحب المنحل ليأخذ كل ما جنته طوال الموسم.

ولم يكُن الفكر الشمولي، أو ما يُسمى بالاشتراكي، أفضل حالاً، فهو كفل للإنسان احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومأوى، لكنه سلبه حق التملك؛ لذلك نجد اليوم الدول التي يغطيها هذا النظام رغم كثرة سكانها لا تعاني من المجاعات، أو عدم توافر الفرص الوظيفية مع وجود نظام صحي جيد نسبياً يغطي جميع فئات الشعب، لكن الإرادة البشرية مسلوبة؛ لذلك نجد جنوحًا لدى تلك الشعوب نحو الفكر الرأسمالي للتحرر من القبضة الحديدية على كل مفاصل حياتهم، ومع كل ذلك يظل النظام الشمولي أقرب إلى العدالة الاجتماعية إذا ما استثنينا المعتقد الديني والثقافي؛ فالصين استطاعت النجاح في توظيف هذا النظام بشكل مثالي لتسيطر على قرابة مليار ونصف المليار نسمة، وتوفير احتياجاتهم الأساسية، وصنعت مثالًا للانضباط المهني، بل وصدرت تجربتها الرائدة لبعض الدول التي صنفت بالدول الناجحة؛ مثل: سنغافورة وماليزيا وغيرها، فأصبحت تلك الدول ملاذًا للرأسمالية الجديدة، مستغلة الأداء المهني العالي والانضباط الوظيفي وقلة تكلفة الأيدي العاملة لصالح نمو رأس المال المهاجر من الغرب الصناعي والمالك الحصري للاختراعات والتقنية المحكومة بنظام مالي يمكن قطعه عن كل مخالف وجعله جزءًا من كوكب آخر.

يعلم النظامان الرأسمالي والاشتراكي أن النظام الإسلامي هو الخطر الأكبر عليهما؛ لذلك قد يختلفون في كل شيء إلا مواجهتهم لقيام نظام إسلامي، فهم متحدون حياله كون النظام الإسلامي وضع أسسًا لاقتصاد يقوم على إعالة الأغنياء للفقراء من خلال منظومة الزكاة، ويبيح التملك الشخصي المنضبط؛ فالناس يتساوون في حمل هم الفقر، ويتمتعون بفترات الرخاء والوفرة، عكس ما يحدث اليوم؛ حيث يتحمل الفقير تبعات الفساد وينجو المفسدون، فلو طُبِّق نظام الزكاة بشكله الدقيق كما كان في عهد الخلافة الراشدة، لما وُجِد فقير في معظم بلدان العالم، لكنَّ هذا يتعارض مع الفكر الرأسمالي القائم على سيادة رأس المال، ولا يتوافق مع الفكر الاشتراكي الذي يتعامل مع الإنسان كمادة ورغبات يجب إشباعها فحسب.

تقود تركيا اليوم بناء نظام إسلامي بواجهة عصرية تستفيد من الفكر الرأسمالي وتتوافق مع النظام الشمولي وتجنب المواجهة معهما قدر الإمكان، ولقد استطاع الرئيس أردوغان الوصول لثقة شعبه من خلال نهج الانتخاب المباشر، وهو نهج غربي وتجربة يحميها ويتبناها النظام الرأسمالي، مع الحفاظ على علاقة متوازنة مع الكتلة الشرقية التي تتبناها روسيا والصين، ولا شك أن تركيا تواجه تحديات جسيمة لتكبح من انطلاقتها لإيجاد نظام أكثر عدلاً وإنصافاً للإنسان على هذا الكوكب، ومن هذا المنطلق يتوجب على الدول الإسلامية دعم نهج تركيا لبناء تكتل عالمي ثالث قوامه العدالة والمساواة المستقاة من الدين الإسلامي الحنيف.

لقد جرب العالم العربي النظام الجمهوري العسكري والملكي، فالأول اتخذ من الديمقراطية الغربية سلمًا للوصول للحكم، وأفضى لحكومات عسكرية متوارثة بلباس مدني، فتجد الجنرال يخلع بزته العسكرية ليرتدي بدلته المدنية ويخطب باسم الديمقراطية والحرية والرفاة الاجتماعي، بينما شعوب تلك الدول ترزح في أتون الفقر والعوز وتفتقر للحرية والعدالة، بينما شكلت التجربة الملكية النظام الأقرب للمجتمعات العربية (مجتمع الخيمة) عندما ابتعدت عن اشتراطات الغرب فعم الرضا وساد نوع من التوزيع العادل للثروة والرفاه الاجتماعي والاستقرار السياسي، واليوم بات مطلوبًا منها تطبيق النظام الرأسمالي الفج دون إصلاحات سياسية؛ فمعظم الإستراتيجيات المرسومة تتبنى الجانب الاقتصادي والاجتماعي فقط.