فن الفخر في دالية القاضي عيسى الطائي

 

 

ناصر أبوعون

ليس من نافلة القول أنَّ أغراض الشعر العربي الغنائي القديم صفحة يستوجب على حملة مشاعل القصيدة الحديثة طيّها، وتشييعها إلى مثواها الأخير؛ بحجة أنَّ الزمن تجاوزها، والالتفات إلى البلاغة الحديثة التي صاحبت الشعرية العربية منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، والانسياق وراء حاملي لواء التجديد على خطى الإبداع الغربيّ، ومن ثَمَّ إسقاط تراثنا الأدبيّ والإعراض عنه انتصارًا للمواكبة. وفي ذلك شرٌّ مستطير يستتبعه إسقاط القدوات الحسنة، والتحلل من التراث القيميّ والأخلاقي، والمضي قُدما نحو الذوبان في شخصية الآخر بعد إزالة كل الأسيجة التي تحفظ تاريخ كل أمّة متفردًا عن غيره في ملامحه وبواعثه وغاياته الكبرى.

 

إسقاط مرجعية التراث

إنَّ إهالة الركام على تراثنا الشعري، بأيدينا لا بيد عَمرو، جريمة في حق عروبتنا المستباحة، وإفناء متعمّد لنطفة أصالتنا التي تتناسل في ظهور أجدادنا جيلا بعد جيل، والتَّنصل -بدعوى الحداثة- من أغراض (ديوان العرب) التي طبعت الشخصية العربيّة بالحماسة والفروسية والإباء والفخر مؤامرة ناعمة و"عَلْمنة" وِفْقَ تعبير عبد الوهاب المسيري؛ "باعتبار أن العَلْمنة الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وبعض مجالات الحياة العامة، وإنما هي عملية فصل كل القيم والثوابت والمطلقات (باعتبارها شكلاً من أشكال الميتافيزيقا) عن العالم والطبيعة وحياة الإنسان العامة ثم الخاصة؛ إذ يتحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية لا قداسة ولا خصوصية ولا مرجعية لها سوى المرجعية الكامنة في المادة، أي ما يسمى بقوانين الحركة (آليات السوق - المنفعة المادية - شهوة السلطة – الجنس - علاقات الإنتاج) (1).

 

الفخر طموح للمعالي

ولا يزال الصراع على أشدّه بين حرّاس الأصالة في تراثنا الشعريّ، وآلياته البلاغية المتوارثة، المحمولة داخل منظومة القيم العربيّة والإسلامية السمحة، ودُعاة التغريب من أصحاب نظرية (قتل الأب - التراث العربيّ)، الذين يرون تراثنا أحد معيقات التقدم الحضاريّ، والعقبة الكؤود التي تسد باب الكهف في وجه التنوير واستجلاب التحديث الغربيّ.

الشيخ عيسى الطائي.jpeg
 

فإذا ما ألقى شاعرٌ منِّا قصيدة (فخر) بالأنساب والقبيلة والأمة والسلاطين، على أحدهم أعرض بوجهه ونأى بجانبه، بل يرى هذا الحداثويّ، ومن لفّ لفّه من المخلّفين الرعاديد أنّ "الفخر ضرب من ضروب العجرفة الفارغة، والجبروت الكاذب، وتلك خديعة طباعهم الخاملة، وسجية نفوسهم الخانعة المستخذية التي تستمريء الهون، وتقنع بالدون. أمّا النفوس المجبولة من طينة الشرف فتأبى إلا مساماة النجوم ومغالبة الخصوم، وذلك لأن الله بَرَأَها حُرَّة فلا تلين للذلة، ولاتدين بالقلة، وكلُّ عربي بطبيعته مجبول على الإباء والأنفة، مفطور على العزة وسمو الهمة والطموح إلى معالي الأمور، وبهذه السجايا أحرز ما أحرز في ماضي الزمان، من عظيم الشأن، وبسطة السلطان"(2). ومن هذه المعاني نقرأ للشيخ القاضي عيسى الطائي: [(شيّدتَ للحق أركانا دعائمها// فوق السماك وصيّرتَ القنا عُمدا)، (إذا ذكرتكم أهتزُّ من طربٍ//كأنني صارمٌ في راحتيك غدا)، (صارت سيوف الأعادي غير قاطعة//لما جعلت هواكم في الوغى زُردا)].

وثيقة تاريخية من الإمام  سالم بن راشد الخروصي العماني لبريطانيا بعدم التدخل  في شؤون البلاد بعد خلع فيصل بن تركي بإجماع أهل عمان من قطر إلى مسقط.jfif
 

ومع أبيات الطائي، نستذكر الأشتر النخعي عندما حمى وطيس القتال، واشتد بأس رجال معاوية في معركة (صفين)، كاد (الأشتر) أن يفرّ يوم الزحف، ولكن ثبتت قدمُه وأنشد قول ابن الأطنابة: [(ابت لي عفَّتِي وأَبى بَلائي//وأَخذِي الحَمدَ بالثَمَنِ الرَبِيحِ)]. ومن ثمَّ فإنّ الانسياق الأعمى وراء الدعوة إلى إسقاط (غرض الفخر) من ديوان الشعر العربيّ بدعوى أنه من علامات النفاق، ومنافاته لصدق الشعور، وقدحٌ بيِّنٌ في الشاعريّة -كما يدّعون وفي إفكهم يعمهون- سيؤدي بنا إلى مهاوي الردى، والتشكيك في القدوات من العلماء والنبلاء، وأن نمحو ديوان الشعر العربي من الذاكرة الجمعية؛ وذلك لأن كثرةَ غرض الفخر في ديوان الشعر العربي وخاصة الجاهليّ "كثرة لافتة، تشير إلى أهمية خاصة لهذا الغرض الشعريّ في نفس وحياة الإنسان؛ فإذا ما أسقطنا هذا الغرض من تاريخنا الأدبيّ، وما فيه من روح الفخر والحماسة لَمَا خَلُص إلينا – كما يقولون – إلا شيء قليل ونزر يسير من الشعر"(3).

 

الفخر ابن الصحراء العربية

وإذا ما استدعينا خارطة الجغرافيا في المنطقة الداخلية من عُمان إبّان زمن الإمامة الخروصية تبدّت لنا صحراء شاسعة، تجللها الجبال الراسيات، يقدُّ أهلوها حياتهم من جلاميد الصخور، ويصارعون شظف الحياة من أجل البقاء، وقد أورثت أهل عُمان جَلَدًا لا يلين، وعزيمةً لا تنثني، وأنفة لا تنكسر، وفي هذا المعنى يقول القاضي عيسى الطائي: [(وصاحبته ليوثٌ من بني حكمٍ//رسمُ المنيّة في أسيافهم وُجِدا)، (وعانق الحق إذ نارت أشعته//أسود غابٍ تراهم في العلا حمدا)]؛ لذلك "كثر شعر الفخر في لسان العربيّ على امتداد العصور، وقد كانت الصحراء العربية خير بيئة لظهور فن الفخر لما تشهده من صراع مستمر بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وغيره من الناس. إن الصحراء حافلة دائما بالمخاطر وبالحروب وبكل مظاهر القوة والعنف والبطولة، ويتجلى فيها التنازع من أجل البقاء في كل صوره" (4).

وإذا ما أمطنا اللثام عن غرض الفخر في شعر الشيخ القاضي عيسى الطائي، لم نجد مداراةُ ولا تُقية، ولا نفاقًا، ولا هو يَمدَّن عينيه إلى زهرة الحياة الدنيا، ولا بُغيةَ تَكَسُبٍ لا تلميحًا ولا تصريحًا، وإنما نُصرةٌ للعقيدة؛ فهو القائل في ختام داليته، مفاخرًا: [(وكيف أترك تيارا يمُجّ ندىً//آليتُ لا أرد الضحضاح والثمدا)، (يا رب نصرًا لأهل الحق قاطبةً//واجعل ملاككَ في الهيجا لهم مدَدا)] "فلم يكن الفخر هدفًا بحد ذاته، ولكنه كان وسيلة لرسم صورة عن الشاعر أو قومه بالإضافة إلى التصاقه الشديد بالذات الإنسانية؛ فالإنسان بطبيعته يحب ذاته ويتأمل نفسه كثيرا ويقارن بينه وبين غيره"(5).

جاء النجاح للقاضي عيسى الطائي.jpg
 

 

دروب الفخر في دالية الطائي

لقد انطوت دالية الشيخ القاضي عيسى الطائي في حرب سمائل زمن الإمام سالم بن راشد الخروصيّ (1332هـ) على ثلاثة دروب من الفخر تتداخل فيما بينها، وإن شئنا الدقة فالقصيدة تشبه (وادي سمائل) مجمع الأفلاج الجارية من أعنة الجبال حيث نعثر على (الفخر الديني) في نقاء صوره السمحة التي نزعت الغل من صدور المجاهدين، وانتصرت للعقيدة والدين في غير غلواء مضلة، ولا عصبية مُطغية. والطائي في هذه القصيدة ينتهج مسارب شعراء صدر الإسلام الذين متحوا "من الدين الإسلاميّ الحنيف معاني فخرهم وبثوا في أشعارهم أسباب قوتها، على صعيد الشكل والمضمون، واستكشاف الروح الدينية التي سادت هذا الفن تؤكد أنه استمد من روح الجهاد في سبيل الله باعثًا ومن الإيمان الصادق مُخَلّصًا من روح العصبية القبلية والمفاخر الشخصية"(6). وفي هذا المعنى يقول: [للحقِ نورٌ سناه مشرقٌ أبدا//لو أنكرته عيون مِلؤها رمدا)، (وإن غدا بُرهةً بالحُجب مستترا//فإنما نحن لم نمدد إليه يدا)،(تبارك الله نور الحق منبلجٌ//فأشرقت بسناه الأرضُ حين بدا)، (فالحق في جَذَلٍ والبُطلُ في وَجَلٍ//والبِرُّ في سَعَدٍ والبحر قد ركدا)].

وفي المرتبة الثانية نعثر على (الفخر الحربيّ)، وفيه يؤرخ الشاعر للمعارك التي خاضها الإمام الخروصي لإخضاع سمائل ومن حولها من الولايات، ويصف مصارع البطولة، ويمدح أسياف المجاهدين، ويشيد بشجاعة الأمراء وزعماء القبائل. وهذا النوع من الفخر يدور حول (الصراع الوجوديّ) الذي خاضته الإمامة من أجل البقاء وإقامة دولتها. وفي هذا المعنى يقول القاضي عيسى الطائيّ: [(صارت عصا الدين سيفا قاطعا فغدا//يقدُّ هامة مَن للحق قد جحدا)، (هل كالفتى الحميريّ اليوم من رجلٍ//فاقت مناقبه الإحصاء والعددا)، (لقد حمى الدين بالهندي منصلتا//وجاد بالمال في أعدائه مددا)].

وفي المرتبة الأخيرة يأتي "الفخر السياسي"، والذي كان طاغيا على مدونة الشعر العُماني في تلك الفترة العصيبة من تاريخ عُمان، وقد أججته سياسة التقسيم البريطانية التي فُرِضت على العُمانيين؛ فشطرت مهد إمبراطوريتهم إلى شطرين: إمامة في الداخل، وسلطنة في الساحل، ووقفت تدير الصراع، وتُلقم العمانيين إلى فوهة حرب أهلية أدخلتهم إلى نير العزلة، واستنزفت مقدراتهم الاقتصادية. وفي هذا المعنى يقول القاضي عيسى الطائي: [(دعوا التحزّبَ فالإسلام يجمعنا//إنّ التفرّق ليلٌ، والاتحاد هُدى)، (فثمَّ جناتُ عدنٍ قد أَعَدَّ بها//مولاي حورًا لمَن للحقِ قد رَشَدَا)،(لا خيرَ في العيشِ إلا أنْ يكون به//عِزٌّ، وما عيشُ قومٍ عِزُّهم فُقِدَا)، (بالائتلافِ ونبذِ الاختلافِ سَمَتْ//فوق السِّماكين صَحْبُ المُصطفى أمدا)].

 

مضامين فكرية في دالية الطائي

انمازت قصيدة الفخر الطائية بثلاث سمات جامعة لأطراف فن الفخر في العصر الحديث، وانطوت على مزية فنية لا تدانيها فيها قصائدُ أخرى كانت معاصرة لها، وربّما يرجع ذلك لكون الشاعر قد وقف على مسافة واحدة من القوى المتصارعة، وإنْ كان يبدو في ظاهره مناصرًا للإمامة إلا أنّ عقله ومنطقه الفكريّ كان في كِفّة سلطان مسقط، وقلبه مع الإمامة، وروحه مع عُمان الأم والوطن والتاريخ الحضاريّ الذي تتخطفه الصراعات.

 

(1) قصيدة الفخر وثيقة تاريخية

لقد جاءت هذه القصيدة لتؤرخ لفترة عصيبة من تاريخ الإمبراطورية العمانية، وأشارت إلى مخطط التجزئة والتشرذم والتقسيم الذي أذكت نيرانه التدخلات الخارجية، وصراعات القوى الاستعمارية في المنطقة وكان نتيجة حتمية لصراع سياسيّ، أشعل فتيل حرب أهلية ظل أوارها مستعرا حتى بعد انتهاء دولة اليعاربة عام 1752، ولم تخمد نيران فتنتها إلا مع الانسحاب البريطاني، وقيام دولتها الموحدة، ونهضتها المباركة واستقرارها واستوائها على لُحمة وطنية جامعة. يقول القاضي عيسى الطائي: [(قامت عُمان على ساق النجاح ولو//تأخرت رَدحًا ما استيقظت أبدا)، (قامت تدافع عن دين الإله ولم// يجد مراما سوى من جَدَّ واجتهدا)، (فالغرب في دَهَشٍ مما تحاوله//والشرقُ من فَرَحٍ لا يعرفُ الكمدا)].

 

(2) الاتكاء على التراث العُماني

رغم الاجتياح الكاسح للتيارات العلمانية، ودعاوى الليبرالية، التي تزحف على الخليج العربيّ، وتجرف في انحدارها الكثير من الثوابت والقيم الدينية، وتراث الأصالة العربيّة إلى أنّ عُمان مازالت صامدةً تقبض على جمر العقيدة الإسلاميّة، وتعضّ على القيم الأصيلة بنواجزها، لا تهزّها ريح التغيير العاتية، ولا تؤلبها إغراءات الحداثة والنزعات الاستهلاكية، وما زال الدين بسماحته هو مركزيّة الحضارة العُمانية وبؤرتها، وراية خفاقة يُسلمها جيل إلى جيل حتى قيام الساعة. ومن مأثور ما أرّخ له القاضي عيسى الطائي في قصيدته حول هذا المنهاج العُماني المتوارث القويم قوله: [(أكرم بقوم غدت لله نهضتهم//وصيّروا الدهر عدلا بعدما فسدا)، (من كالفتى بن حُميد ذي الإباء فتى//قد عاش يجمع شمل الدين منفردا)].

 

(3) إنكار الذات والفخر بالأمة العمانية

في هذه القصيدة يتبدل الضمير (أنا) من ظاهره الواضح إلى (نحن) المضمرة بين جنبات النُص، وتنتقل (تاء المتكلم - الفرد) (الأنويّة)، إلى صيغة ضمير الغائب (هي) الدال على الأمة الحاضرة في القلوب حيث تتراجع الذات وتنزوي في سبيل إعلاء الأمة. كما في قول الطائيّ: [(قد كِدْتُ أُقسمُ لولا أنّ ذا سرفٌ//بأنّ نهضتها قد زحزحتْ أُحُدَا)].

 

البنية الفنية في دالية الطائي

لقد برع القاضي عيسى الطائي داخل متن هذه (الدالية الفخريّة) في التحوّل من المعنى المعجمي الذي تجمّدت دلالته ووقف على صورة ذهنية واحدة إلى معنى شعريّ يتبرعم ويتغصّن ويتفرّع وتتولّد من بِنَاهُ الأسلوبية دلالات شتى -والتي تُسمى في علم البلاغة الحديث بـ"استراتيجية الانزياح اللغويّ"- و"من فُضلة القول: إن الشعر ما هو إلا بناء لغويّ يحمل في ثناياه معاني وأفكار وعواطف الشاعر التي تنبيء عن مقاصده لذلك عند دراسة أي نص شعريّ فإن بوابته الأولى هي لغته، ليس في ثوبها المعجميّ، وإنما في انزياحها عن الاستخدام العادي إلى الاستخدام الخاص بالشاعر الذي يتولّد من خلاله شعور (ما) لدى المتلقي يجعله يتخذ موقفا تجاه موضوع النص"(7). وهذا يحيلنا للبحث فيما وراء "البنية الفنية لقصيدة الفخر الطائية"، ومن هذه البنى التي تبدّت على سطح النص:

(أ) البنية اللغوية الإنشائية

وفي مقدمة هذه البِنى يأتي (الاستفهام)؛ كما في قوله: [(كيف أترك تيارًا يمجّ ندى؟)، (مَنْ كالفتى ابن حميد ذي الإباء فتى؟)، (هل كالفتى الحميريّ اليوم من رجلٍ؟)]؛ "فالاستفهام في غرض الفخر، يخرج عن قصده إلى قصد آخر غرضه توكيد حقيقة في ذهن السامع والتنبيه على صدقها؛ لذلك يمكن جعله من الجمل المحورية في توجيه الخطاب الشعريّ وإثارة الاهتمام بالنص الشعري"(8).

ثم يأتي "فعل الأمر المطلق" للدلالة على الطلب الجازم على وجه الاستعلاء والوجوب ما لم ينصرف بقرينة، وفي هذا السياق يتحدث الشاعر عيسى الطائي بلسان حال ولي الأمر لا لسان الشاعر، كما في قوله: [(هُبُّوامن سباتكم)، و(جاهدوا باطلا)، (فابذلوا النفس)، و(دعوا التحزّب)]، ثم انتقل الشاعر من حالة الطلب الجازم والملزم للمُخاطبين، والواجب على المجاهدين، إلى وضعية (الدعاء والترجّي) للذات العلية. كما في قوله في نهاية قصيدته: (واجعل ملاكك في الهيجا لهم مددا)، وقوله: (يا رب نصرًا)، وهي مفعول مطلق لفعل أمر محذوف تقديره: (انصرنا نصرًا).

أمَّا أسلوب النداء فقد جاء على ضربين؛ الأول استخدم فيه الشاعر أداة النداء (يا) وهي للبعيد، وإن كان مقام الخوف والرهبة والرجاء يقتضي حذفها لمناسبة المناجاة والقرب، والتضرع حيث مقام الدعاء يزيل الحواجز ويمحو الفواصل بين العبد وربّه، إلا أنّ الشاعر أثبتَ (ياء) النداء تحت ضغط الضرورة العروضية، كما في قوله: (يا ربِّ نصرا). أمّا في قوله (يا أيها القوم)، فقد كان موفقًا في استخدام أداة النداء للبعيد للدلالة على تباعد القلوب وتنازعها مما استوجب الفرقة، وجاء النداء للحث على توحيد الصفوف وهجر المنازعات.

(ب) البنية السّردية

عند دراسة هذا النص الكلاسيكي، وجدناه ينطوي على بنية سردية توفرت عناصرها داخل متن النص، - وإن طغى عنصر منها على مساحة أوسع من عنصر آخر-، وعندما يعيش القارئ الطقس التاريخي للواقعة التاريخية المعروفة بحرب سمائل زمن الإمامة الخروصية، يتصوّر الوقائع؛ بل تتمسرح أمامه الأحداث، ويدور الشريط السينمائي، وتتجسد الشخصيات في مخيلته. ومن ثمَّ يمكننا القول بأنّ هذه القصيدة  سرديّة بامتياز؛ فقد توفّرت على (الحدث)، وتعددت فيها (الشخصيات)، وساد في فضائها (الحوار)، ويتحرك (فضاء القصيدة)، داخل (زمن واقعي) وفاصل تاريخي مُعاش، وقام الشاعر بدور (الرواي)، مع توفّر الحدث على(الصراع)؛ وذلك لأن "القصيدة السردية التي تُبنى على السرد بما هو إنتاج لغوي يضطلع برواية حدث أو أكثر، وهو ما يقتضي توفر النص الشعري على حكاية أي على أحداث حقيقية أو متخيلة تتعاقب وتشكل موضوع الخطاب ومادته الأساسية"(9)، و"السرد الحكائي في النص الشعري هو الذي يمكن أن يبعده عن الطابع الغنائي الذاتيّ، وينقله إلى طابع إنسانيّ، فلا يصيح النص الشعريّ تعبيرا عن تجربة ذاتية فحسب، بل يصبح تصويرا لتفاعل الأحداث وصراع الشخصيات بما فيه من مواقف وحوار وفضاء"(10). حيث تبدأ أحداث القصيدة من تاريخ تولي الإمام سالم بن راشد الخروصي الإمامة، وبعثه بالرسائل إلى زعماء القبائل طلبا للانضواء تحت لوائه، ومخاطبة السلطان بإنهاء النفوذ البريطاني وتطبيق الشريعة الإسلامية، "وعلى الرغم من التدابير التي اتخذتها حكومة الهند البريطانية إلا أن هذه الجهود لم تمنع قوات الإمامة من التقدم فاستولت على (نزوى) وأخرجت والي السلطان وحاميته منها واتخذها الثوار مقرا للإمامة، ثم تقدمت هذه القوات إلى (إزكي) واستولت عليها، ثم أخضعت (وادي سمائل) في رمضان 1331هـ - أغسطس 1913م، وكان لذلك الوادي أهمية عسكرية بالغة، فهو المَنفذ الرئيس بين الساحل والمنطقة الداخلية"(11).

(ج) البنية الدلالية

إضافةً إلى توظيف الشاعر للقافية لتُعاضِد الصورة الشعرية، واستنطاق المعاني والدلالات الصوتية المُشعة من (ألف الإطلاق) اللاحقة (للفعل الماضي) و(الأسماء المنصوبة) مستهدفًا إشباع (حركة الرَّوي) وتوحيد (رسم نهاية القافية)، فإنّ هذه القصيدة تتوفر على مجموعة من الصور الشعرية البسيطة والمركبة وتتنوّع هاتيك الصور ما بين (الاستعارة والمجاز والتشبيه) ولكلٍ دوره في توليد المعاني، بل تلعب الصورة دورا فاعلا في إثراء مخيلة القاريء والانتقال به من المتخيل التصوري إلى الواقعي المُعاش، فتكاد تسمع صهيل الخيول، وصليل السيوف البارقة، ويتراءى أمام ناظريك نقع الغبار يعلو خلف سنابك الخيول، وهدير المدافع التي تشق صفحات السماء، ومن الصور التشبيهية التي أقامها الشاعر على رُكنين اثنين فقط قوله: (صارت عصا الدين سيفا قاطعا)، و(إن التفرق ليل، والاتحاد هدى)، و(تراه في الوغى أسدا)، وعلى منحى آخر نشاهد روائع الاستعارات التي تتراوح ما بين التجسيد والتشخيص في قوله: (صيروا الدهر عدلا بعدما فسدا)، و(جاء النجاح مجدا بعدما بعدا)، و(شيدت للحق أركانا دعائمها)،و(الحق نارت أشعته)، ومن براعته في بناء الكنايات قوله: (إذا ذكرتكم أهتز من طربٍ)، و(سال بها ماء الهدى).

ثم يأتي (التناص) عبر دفقات يستدعيها الشاعر عيسى الطائي إلى متن قصيدته من الموروث الديني وخاصة المتن القرآني ليس بصفة تزيينية، وإنما ضرورة اقتضتها الصورة الشعرية إمّا لإضفاء صفة التبجيل على المعاني والدلالات التي يرمي إليها الشاعر، وإمّا بغرض الارتقاء بالمعاني والرموز إلى مستويات عليا تُسهم في تمتين البنية اللغوية، وربّما كان التناص سليقة لغوية لدى الشاعر لاشتغاله بالفقه وأصول الدين في مبتدأ حياته، ولاحقا اعتلائه منصة القضاء الشرعي. ومنه قوله: (تبارك الله)، و(زحزحت أُحُدا)، و(جنات عدن)، و(أسرّت النفس أمرا)، و(لبّى لدعوته)، و(عصا الدين).

-----------------------

الإحالات والمصادر:

([1]) انظر: الأمركة والكوكلة والعلمنة، عبدالوهاب المسيريّ، الجزيرة 29/5/2007.

([2]) الفخر في شعر المتنبي، طه الراوي، مجلة الرسالة، العدد 169، ص:3.

([3]) شعر الفخر عند الفرسان في العصر الجاهلي، دراسة تحليلية، حنان أحمد جاد الله الحتاملة، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، ص: 1، 1987م.

([4]) الفخر في الشعر العربي، سراج الدين محمد، دار الراتب الجامعية، بيروت، ص:5.

([5]) الفخر الذاتي في شعر أبي فراس الحمدانيّ، د. منى عبد الله المطرفيّ، حولية كلية اللغة العربية بـ(إيتاي البارود) العدد 32، المجلد الرابع، ص:3671.

([6]) انظر: البلاغة العربية في ثوبها الجديد، ص:75.

([7]) الفخر الذاتي في شعر أبي فراس الحمدانيّ، د. منى عبد الله المطرفيّ، حولية كلية اللغة العربية بـ(إيتاي البارود) العدد 32، المجلد الرابع، ص:3671.

([8]) انظر: البلاغة العربية في ثوبها الجديد، ص:75.

([9]) انظر: جوزيف إ. كسينر، شعرية الفضاء الروائي، ترجمة لحسن حمامة، بيروت، لبنان 2003.

([10]) انظر: البنية السردية في النص الشعري متداخل الأجناس الأدبية، د. محمد.

([11]) انظر: قيام نظام الإمامة في عمان، د. عبد الله التركي، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد 46، محرم، 1430هـ.