مدرين المكتومية
دائمًا ما أحسب نفسي على التيار الذي لا يُحب السياسة، ليس لأنني لا أفهمها، ولكن لسوء ما بات يُخيِّم على وَجْهِها من مُؤامرات وصلف وخِداع وتحايلات، كان ضحاياها في الغالب ولا يزال أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. فكانت رائحة الدماء مخلوطة بغبار البارود الأسود.
ولن أذهب بعيدًا، فما شاهدناه بأعيننا وتابعناه إعلاميًّا لحظة بلحظة على مدار أسبوع كامل من اعتداءات واشتباكات وتخريب وعنف وفوضى عارمة عمَّت باريس "عاصمة النور" -كما كنَّا نسميها- على خلفية العنصرية المقيتة في التعامل مع شاب فرنسي جزائري الأصل لم يتجاوز عمره السبعة عشر عامًا، قُتل بدمٍ بارد على يد شرطي، في حادثة ليست الأولى من نوعها، ولكنها كادت هذه المرة أن تهزُّ استقرار دولة بحجم فرنسا، تلك الدولة الأوروبية العريقة التي تمتد حضارتها لآلاف السنين، كانت على شفا حُفرة من نيران غضب شعبي، ملأوا الشوارع والميادين احتجاجًا على عُنف شُرطي فاق الحدود؛ فاحتشد عشرات الآلاف في الشوارع في مشهد أثار علامات استفهام عديدة، أبسطها على الإطلاق: كيف لحادثة مثل هذه وتبعاتها أن تقع في فرنسا؟
إنَّ التيار الشعبوي الذي وُلِد في الخفاء لم يتوقف يومًا، بل آخذ في التطور والتضخم بصورة قد تهدد استقرار أوروبا بأكلمها ما لم يكن العالم بأسره، ولمن لا يعرفون الشعبوية، هي أيديولوجية يتحكم فيها بعض التيارات اليمينية المتطرفة، وتعمل على حشد الجماهير لمواجهة السلطة وزعزعة الأوضاع في البلد تحت شعارات خداعية كـ"أمريكا للأمريكيين" وإرادة الشعب هي العليا...وغيرها من الشعارات الرنانة المُفرغة، وما بريطانيا ورحلة خروجها من الاتحاد الأوروبي بدافع من اليمين المتطرف، أو النمسا وهولندا والسويد وإيطاليا، والعديد من الدول الأوروبية منا كنماذج ببعيد.
فالتيار الشعبوي بطبيعة الحال، تيار يلعب على إثارة مشاعر وعواطف الجماهير، وتأليب الرأي العام، لتحقيق أهداف خاصة غير مُعلنة، ما تلبث الشعوب أن تدركها ولكن بعد أن يكون الأوان قد فات. وأعود مرة أخرى للمشهد في فرنسا كأحدث نموذج يُمكن أن نبني عليه إسقاطاتنا، فالموقف الآن هناك يبدو مُعقدًا بدرجة كبيرة؛ فالرئيس مانويل ماكرون يبدو أنه في حالة من القلق تجاه الأحداث الأخيرة وتطوراتها، وهو ما يُنبئ بأن جُملة قرارات مصيرية قد تُتخذ خلال الفترة القريبة المقبلة.
أنا واحدة من المؤمنين بأنَّ عِبَر التاريخ بأحداثه هي مرآة صادقة لاستشراف المستقبل، خصوصاً إذا ما كانت المعطيات واحدة فبكل تأكيد ستكون النتائج هي نفسها، فما شهدته أمريكا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ذاك الرئيس الشعبوي، الذي تسبب في خسائر كبيرة للولايات المتحدة، وأضر كثيرا بالاقتصاد الأمريكي، بل والاقتصاد العالمي، هو نموذج ودرس يُمكن البناء عليه؛ حينما أراد بسياساته الشعبوية إزاحة الصين من أمامه وتحجيمها، وفرض عقوبات اقتصادية على كبريات شركاتها كـ"هواوي" وغيرها، وإعلاء الشعار الأشهر "أمريكا للأمريكيين"، ماذا حدث بعدها؟ انقلب الشعار لـ"أنا ومن بعدي الطوفان"، فمشهد اقتحام الكابيتول (مقر مجلس الشيوخ والنواب الأمريكي) في آخر فترات حكم ترامب قبل تسليمه السلطة للرئيس الحالي جو بايدن، كان بمثابة ضربة في مقتل للديمقراطية الأمريكية، ومرآة لا غبار عليها لـ"شبح شعبوي مُخيف".
... إنَّ الشعبوية التي أصبحت الآن مُتجدرة في الفكر السياسي الغربي عمومًا، والأوروبي منه على وجه التحديد، هي سياسات عنصرية متطرفة، لن تفضي حال اتساعها إلا إلى مزيد من الخراب والفوضى والنتائج الكارثية على الأمن والسلم والاستقرار العالمي، سياسات ستسمح لعصابات النهب والسرقة لممارسة أنشطتها الإجرامية تحت ستار من السياسة، وتحت ستار الدفاع عن حقوق الإنسان.. فاحذروا الشعبوية واحذروا أن تصبح عقولكم أسيرة لمثل هذا التفكير المنحرف سياسيا واقتصاديا، فلا نتيجة له إلا الخراب!!!!
كلمة أخيرة.. إنَّ من أشكال الشعبوية الجديدة، ما يقوم به بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي اليوم من محاولات غير مبنيَّة على أسس أو حقائق لزعزعة ثقة الشعوب في حكوماتها، من خلال الترويج واسع المدى لأخبار مغلوطة أو أشباه وقائع غير مكتملة الصورة، مما يُسهم في خلق الفتن ويُدمِّر وحدة النسيج المجتمعي، ولعلَّ مآسي "الربيع العربي" خير شاهد ودليل على ذلك.. لذا، ألم أقل لكم: أنا أكره الشعبوية".