لا تهربوا من المدمن.. احتضنوه

 

 

ميرفت بنت عبدالعزيز العريمية

عند الاقتراب من مفهوم الإدمان وما يحمله من معانٍ، نجد أننا كلنا مدمنون على نوع من أنواع الإدمان، في الأقل، إن لم يكن أكثر من نوع؛ فالإدمان كمصطلح يحمل سُمعة سيئة يجعل النَّاس تنفر عند سماع الكلمة، كالفرار من مرض معدٍ أو حيوان مُفترس، لكن واقع الحال يُؤكد أنَّ كل إنسان يمارس الإدمان بعلم أو بجهل منه؛ فالإدمان عبارة عن عادة نقوم بها بشكل متكرر، ونفشل في التخلص من العادة لأنها تسيطر علينا، وتحوِّر معنى السعادة أو الراحة في العقل الباطن. وهي تأتي بعد تعرضنا للتنبيه، كحالة حزن أو توتر أو عصبية؛ فنقوم بممارسة العادة للشعور بالراحة. هناك من يربط بين العادة وبعض الأحداث، فمثلاً عندما تذهب إلى السينما، أو تشاهد فيلماً بالمنزل، فأول ما تقوم به تناول "الفشّار"، حتى لو لم تكن جائعًا، والبعض يتناولون المشروبات الغازية كجزء أصيل مع كل وجبة. أما البعض، فإنَّ مفهوم السعادة يكون في تناول المؤثرات العقلية وأشياء أخرى تكون أكثر ضررا بالصحة العامة.

لخَّص تشالز دويج مؤلف كتاب "لماذا نُدمن العادات" فكرة الإدمان في ثلاث مراحل: التنبيه أو المحفز والروتين والتكرار ومن ثم المكافأة والشعور بالسعادة.

يذهب البعض إلى حصر الإدمان في المؤثرات العقلية والمسكرات والتدخين، علمًا بأن الإدمان عالم بحد ذاته وهو عالم إدمان العادات. يمارس الإنسان في أوقات معينة من حياته عادة معينة تكون المتنفس والملاذ الآمن الذي يشعر فيه بالسلام والقوة والثقة بالنفس؛ فالشراهة في الطعام أو ما يُسمَّى بـ"الأكل العاطفي" إدمان، ومتابعة التواصل الاجتماعي على مدار الساعة إدمان، وتناول المنبهات كالقهوة بكثرة إدمان، والتسوق الكثير بدون حاجة حقيقية إدمان.. قائمة طويلة لأشكال الإدمان وأنواعها والعادات والسلوكيات الخاطئة التي أصبحت جزءا من نمط الحياة اكتسبناها حتى بدت مألوفة ومتوارثة كمفهوم الكرم الذي تحول إلى إسراف وهدر المال.

بعض أنواع الإدمان تضرُّ المدمن وكل من حوله، ويتنقل الأمر إلى التسبُّب في إحداث ضرر كبير بالمجتمع، دون أن يشعر الفرد الذي عادة ما يكون تحت تأثير المؤثرات العقلية.

من الضروري التعامل مع الإدمان كظرف خاص يمر به المدمن، يحتاج إلى تفهُّم المجتمع ودعم المحيطين، إلا أنَّ ما يحدث هو العكس تمامًا؛ حيث ينظر المجتمع إلى المدمن كمذنب وسيئ ولابد من تفاديه، وهناك من يساعد المدمن على الإدمان من باب التعاطف والتدليل الزائد. نادرا ما نجد تعاطفا معقولا وموزونا مع المدمنين بغض النظر عن سبب الإدمان، خصوصا في الإدمان الذي يخصُّ المؤثرات العقلية والمشروبات الكحولية، حتى إننا لا ننظر إلى الإدمان كحالة مرضية يجب مُعالجتها بحب واهتمام والبحث عن جذور المشكلة؛ فالمدمن في هذه الحالة إنسان فاقد للحب والأمان، أو قد يكون شخصًا قد تعرض لصدمة ما في حياته، فتظل المعاناة مستمرة معه وتكبر دون علاج، فيلجأ إلى المُلهِيات التي تمنحه الهدوء النفسي الوقتي.

يفشل الكثيرون في التخلص من الإدمان لأنهم لا يملكون إرادة قوية تدفعهم من الداخل للتخلص من المشكلة؛ فنراهم يستسلمون لتلك العادات حتى وإن كانوا يعلمون أنها مضرة؛ فإدمان المؤثرات العقلية يغيُّر من كيميائية الدماغ، مثلما يُؤثر على الحالة النفسية وقد يسبب أضرارا جسدية ونفسية وتلفاً في الأعضاء.

أسباب كثيرة تدفع الإنسان إلى الإدمان؛ منها: الفراغ والشعور بالنقص الخوف من المجهول أو صدمة عاطفية ونفسية، وكذلك الجينات الوراثية والبيئة الاجتماعية والاقتصادية، وأخيرا التنشئة الأسرية. وفي ظل ضغوطات الحياة التي أصبحت تزيد، فإنَّ الإنسان يبحث عن مصدر يحقق له السعادة وإن كانت سعادة وقتية، قد تكون هروبًا من واقع أو استراحة محارب. يطلق الجسم هرمون السعادة إذا تعرَّض للمحفز الذي يسبب النشوة والراحة، لكن ما يحدث مع المدمن أن عند تناوله للمؤثر العقلي يطلق الجسم كميات كبيرة جدا من الهرمون أكثر من حاجة الجسم الطبيعية، علماً بأن هناك محفزات أخرى يمكن أن تحقق للإنسان السعادة وتطلق نفس الهرمون باعتدال دون أن تسبب أضرارًا.

توصَّل عالم الأعصاب الأمريكي راسل بولدراك مؤلف كتاب "صعوبة التخلص من العادات: ولمَ يتمسك بها دماغنا"، إلى أنَّ الدماغ البشري له قدرة على صناعة العادات وفبركتها، وإلى أننا أكثر من أي وقت مضى يجب أن نتعلم كيف نضع قواعد لعاداتنا واتباع إستراتيجيات قائمة على الأدلة لتغيير السلوكيات غير المرغوبة في عالم مملوء بالمحفزات التي تدفع إلى الإدمان.

فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، ويعتمد على الإرادة القوية التي لا تنتظر محفزات أو دعمًا خارجيًّا لتغيير العادة، وقوة الإرادة وقت الصباح تكون أقوى من المساء. لابد من حب الذات وتقديرها وتعزيزها؛ فأغلب المدمنين يعانون من نقص ما أو نكسار داخلي؛ لذلك فإنْ أردنا أن نعالج مشكلات الإدمان، فعلينا أن نبحث عن الأسباب الكامنة وراء دفع المدمن إلى هذا الفعل، والقضاء على المحفزات المنتشرة بكثرة في المجتمع. إنَّ التربية السليمة والأسرة المتماسكة، من أهم العوامل التي تساعد على الحد من انتشار المؤثرات العقلية، والإدمان السيئ بشكل عام.

... إنَّ الشباب والمراهقين من أكثر الفئات عرضة للإدمان لحبهم للمغامرة والاستكشاف من جهة، ومن جهة أخرى لديهم طاقات كبيرة، ولا يجيدون المتنفسات المناسبة للمجتمع، فيبحثون عن الحلول الأسهل لبلوغ النشوة والهروب من الضغوطات الحياتية.

وتعاني مُجتمعاتنا الكثير من المشكلات الاجتماعية، والاقتصادية والبطالة ووقت الفراغ، فبدلاً من أنْ نترك الشباب يواجهون مصيرهم دون توجيه ورعاية نفسية، وتعليمهم طرق مواجهة الضغوطات، علينا أن نرسم إستراتيجيات احتواء وخطط تحول السلبيات إلى إيجابيات، وتشغل الشباب في أنشطة مفيدة صحياً وعقلياً ونفسياً. فقضية الإدمان لن تعالج دون تكاتف أفراد المجتمع ومؤسساتها وإدراكهم بأن الهروب من المدمن له نتائج وخيمة على المجتمع بأسره. وأن الحب والاهتمام والمشاعر الطيبة تعالج الكثير من المشكلات.